من غير المستغرب ان تحل السنة العاشرة على اغتيال الرئيس رفيق الحريري في تراكم زمني يكاد يكون كالبرق ما دام هذا الاغتيال لا يزال القاطرة الاولى لتفجير احد اكبر الزلازل والاحداث التي تعاقبت بسببه بعد الحرب اللبنانية والحروب التي تخللتها على لبنان الى ان وضع اتفاق الطائف حدا لها. عقد كامل من ١٤ شباط ٢٠٠٥ الى ١٤ شباط ٢٠١٥ والحريري ماثل في طوايا مرحلة الانقلاب الدموي على عصر التصق باسمه وشخصه وسياساته وأدائه ما بين فجر الطائف في خريف ١٩٨٩ وتاريخ اغتياله مفخخا بطن ونصف طن من المتفجرات امام فندق السان جورج في ما وصف بانه جريمة العصر. آنذاك، ولا تزال الوقائع طرية حية خصوصا مع توغل جلسات المحكمة الخاصة بلبنان في الأشهر الاخيرة في الاستماع الى الشهود السياسيين الموصوفين ولا سيما منهم النائب مروان حمادة الذي قدم أوسع ما يمكن ان تقدمه ذاكرة محصنة بالوقائع والإثباتات التي ترقى بتفاصيلها الدقيقة الى مستوى الأدلة والقرائن، آنذاك اذا اتخذ زمن التصفية المباشرة للضحية الكبيرة طابع اعلان حرب من”طراز” مختلف ولو ان لبنان ذاق مرارة الاغتيالات المماثلة مرارا وعبر حذف قامات كبيرة مماثلة بدءا باغتيال سليم اللوزي عشية الحرب مرورا باغتيال الرئيسين بشير الجميل ورينه معوض والزعيم كمال جنبلاط وآخرين وآخرين. مع الحريري الزعامة غير التقليدية الاتية من بيئة لبنانية – خليجية – غربية ذي مذاق مركب ومتعدد الامتدادات كان الاغتيال يستهدف الرجل الذي صار عضوا كامل العضوية في النادي الدولي لكبار زعماء تلك الحقبة، واعادة “تأديب” هذا البلد على قاعدة ازاحة زعامة الحريري الذي تتقاطع عند شخصه ظروف ومصالح كبيرة تغذي الواقع اللبناني بالتحفز لثورة استقلالية.
من منظار من يستعيد المشهد بعد عقد كامل بات يمكن الآن اكثر من اي وقت سابق تفسير المنحى الوحشي والعنيف الذي اعتمد في تصفية الحريري ما دامت كل اسرار صراعه مع النظام السوري و”النظام الأمني” المتولد عن وصايته كشفت بحذافيرها وصارت امام محراب العدالة الدولية ومعها التاريخ. كما ان التبدل الهائل في ظروف المنطقة ولبنان يملي اعادة التصويب على التغيير الكبير الحاصل في التعامل الدولي مع لبنان الذي هبط هبوطا عميقا بعد اندلاع شرارات الحروب المذهبية العاصفة في المنطقة. في “ايام الحريري” وخصوصا بعد زلزال الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ في الولايات المتحدة وغزو العراق تقاطعت فوق لبنان في سابقة تاريخية نادرة ثلاث إرادات كانت، وبصرف النظر عن أحجامها، متساوية ومتوازية تماما في التأثير القوي الدافع نحو انتشال لبنان من عصر الوصاية السورية ولو بأسلوب المقاومة المتدرجة. نادي الدول الغربية الذي اختصرته قمة النورماندي بين جورج بوش الابن الرئيس الاميركي وجاك شيراك الرئيس الفرنسي آنذاك، بكركي ببطريركها التاريخي مار نصرالله بطرس صفير المعلن الثورة الاستقلالية منذ نداء المطارنة الموارنة الشهير في أيلول ٢٠٠٠، الرئيس رفيق الحريري بكل ما بات عليه من تصميم هادئ وثابت وصامت من اجل دفع تنفيذ اتفاق الطائف قدما في المعطى الواسع الذي يحرر البلاد من الوصاية من دون ان يقدم للنظام الوصي الذريعة لتدمير كل انجازات السلم الأهلي وانجازات الإعمار الهائلة التي التصقت باسم صانعها ورمزها الحريري. ولعلها المفارقة المذهلة التي لا تزال حتى الآن صعبة على التفسير والهضم ان ينبري النظام نفسه الى اشعال مواجهة كان يفترض به ان يدرك سلفا انها آيلة الى اسقاطه إسقاطا مدويا في لبنان.
قبل ذلك ببعيد كانت صورة الرئيس رفيق الحريري بعد اتفاق الطائف التبست بشكل شديد على معسكر المقاومين الأوائل للوصاية السورية لا سيما لدى القوى المسيحية. كان عهد الرئيس الياس الهراوي في مطالعه بعد الضربتين القاصمتين اللتين وجهتا الى الزعيمين القويين في هذا المعسكر العماد ميشال عون وسمير جعجع نفيا للأول الى فرنسا وسجنا للثاني في وزارة الدفاع حين أطل الحريري على السلطة من بابها العريض في العام ١٩٩٢متوجا مسار الوسيط والمتحرك المكوكي والدافع القوي نحو إبرام اتفاق الطائف. أوقع الحريري هذا المعسكر في تمزق حياله من البدايات. حين قام بزيارة للمدرسة المركزية في جونية عقب تكليفه الاول بتشكيل الحكومة اشتعلت الانتقادات لأحد الآباء الوقورين الموارنة لانه قارن بين زيارة الضيف الآتي الى كسروان والجولات التي كان يقوم بها احد الخلفاء الراشدين. حتى ان الحريري عانى الامرين بعد حين عندما اشتعلت حملة شعواء عليه وذهبت الى اتهامه بـ”أسلمة” ارض كسروان لانه أراد ان يشق اوتوسترادا رديفا لاوتوستراد جونية – بيروت. بعد ذلك بمدة طويلة بدأت ترتسم معادلة فرضت على الحريري “لك الاقتصاد ولنا القرار الامني والسياسي” من جانب القرار الوصي وحتى في الاقتصاد دست تباعا العراقيل في وجهه. كانت تلك نماذج صارخة ومعبرة عن الحقبة الاولى من شق الطريق الصعبة بين الحريري والمعسكر المناهض لعهد الهراوي ومن خلفه عهد الوصاية السورية. كان أنصار هذا المعسكر يأخذون على الحريري انه الإسفنجة العملاقة التي تحتوي تناقضات ذاك العصر بتحالفه مع سوريا وبعلاقاته الداخلية والخارجية الواسعة مما يتيح لسوريا اسلاس تحكمها بلبنان. اختلفت اختلافا جذريا رؤية الحريري في سعيه الى تمتين الارضيّة الذاتية للبنان سياسيا واقتصاديا وعمرانيا قبل اضاءة زر العمل الجدي لانسحاب سوريا من لبنان مع رؤية المعسكر المناهض للسوريين ومراسه سحابة ثماني سنوات وربما اكثر. لكن التطور الذي دفع قدما نحو تحجيم التناقض والاختلاف بدأ مع استفحال ممارسات النظام الأمني المشترك في عهد الرئيس أميل لحود حيث بدأت معالم “توحيد” ضمني وعلني لمعارضة الوصاية الفجة.
أما في المعسكر الآخر حيث كان يتعاظم شأن “حزب الله” في السنوات الـ١٥ بعد الطائف التي أمضاها الحريري في السلطة والسياسة، فصاغ الحريري سياسة “الجوهرجي” في توازن دقيق واكب المقاومة ضد اسرائيل وتبناها متدرجا في ذلك الى توظيف علاقاته الدولية في اجتراح اعلان نيسان الشهير الذي يعترف للمقاومة بحقها في مناهضة الاحتلال وتحييد المدنيين بعد مجازر إسرائيلية ارتكبت في الجنوب. وفي المقابل رمى بثقله وبعلاقاته الدولية والعربية والاقليمية لمنع اشتعال مواجهات اقليمية كبيرة تقوض جهود الإعمار والسلم خصوصا بعدما راحت العوامل الايرانية والسورية والاسرائيلية تتنافس مجددا على ارض لبنان كمتنفس للحسابات والصراعات والاوراق الاقليمية.
قد لا تكون ثمة حاجة الآن الى استعادة تلك الظروف الا من منظار الإضاءة على حقيقة ظلت مختبئة طويلا لدى الحريري وعرف كيف يطمرها الى اللحظة الملائمة. بذلك ترتسم ملامح سياسة الحريري وطبيعته في البناء خطوة خطوة ومن دون مجازفات لان محاذير الخسائر التي تترتب عن هذه المجازفات لم تكن لتقل عن “تدمير لبنان على رؤوسكم” كما ورد في شهادتي مروان حماده وغطاس خوري امام محكمة لاهاي.
أساسا كان الحريري في المقام الاول رجل مزاجه الخاص وبيئته المحببة الخاصة، بيئة الابحار الممتع في مشاريع الإعمار والمدارس والجامعات والعمل الاجتماعي بدليل تخريج مؤسسة الحريري اكثر من ٣٥ الف متخرج جامعي كانوا “الجيش الحضاري” الذي يباهي به صاحب المؤسسة. استقى تصميم “سوليدير” الذي عده مفخرته الكبرى وابنه الإعماري الكبير المدلل على رغم المناهضة الشديدة التي واجهته في تنفيذه من تجربة منطقة “الديفانس” ذي الطابع العمراني المحدث في المنطقة الباريسية والتي تنقل زائر العاصمة الفرنسية الساحرة التي كان الحريري من عشاقها من طابع كلاسيكي تاريخي الى طابع حداثي بلمح البصر. ثم أيقن بعد تقدم العمران في وسط بيروت ان لا حماية لإنماء من جانب احادي، فراح يخطط لتمديد التجربة نحو الضاحية الجنوبية ومحيط المطار عبر مؤسسة اليسار. ومع ذلك لا يخفى كم كانت بيروت حصرا قبلة شغفه الى ان “اختيرت” مكانا لاغتياله في قلب المشروع الناهض الذي حمله فارتد اغتياله تفجيرا لأوسع ثورة عرفها لبنان في ١٤ آذار ٢٠٠٥.
لم تطو السنوات العشر منذ اغتياله أوسع جدل داخلي حول مشروعه وسياساته ونموذجه في السلطة والسياسة. وثمة في مقلب الخصوم الكثير مما يحملونه “للحريرية” الاقتصادية والسياسية. مع ذلك فالرجل الذي شرع اغتياله الريح مجددا على لبنان وأمعنت انواء الانقسام فيه بفعل إزاحته الدموية مفتتحة حرب الاغتيالات على الغارب يثبت في الذكرى العاشرة لتغييبه غيلة انه كان رمز الاعتدال والتوازن والحوار العابر للطوائف والمذاهب والذي ما كان اختلال لبنان في السنوات التي اعقبت اغتياله الا الدليل القاطع على عمق فهمه لطبيعة التوازنات التي تستلزمها دوما الطبيعة المعقدة للبنان، بحيث جعل نهجه وشخصه نموذج اعتدال حتى في خوضه معركة السيادة وفق معاييره الحريرية الخاصة التي كان يختصرها بقول شديد البساطة والعمق في آن “ما حدا اكبر من بلده”.