75% من شاطئ بيروت الإدارية مُقفل أمام العموم، بحسب «الحملة الأهلية للدفاع عن دالية الروشة». مسار حجب الناس عن ملكهم العام وسلبهم الحق في التمتع به المُنتهج منذ أكثر من عقدين، أفضى إلى سدّ معظم منافذ المدينة نحو البحر وخصخصة متنفسها الطبيعي. مسار التعدّي هذا لا يقتصر على الأملاك العامة البحرية في بيروت، ذلك أن «بلع» الشاطئ يطال مختلف المناطق اللبنانية الساحلية. لكنّ الإمعان في اغتصاب الملك العام البحري يتجلّى في مشاهد التعديات التي تتعرّض لها العاصمة أخيراً، وخصوصاً التعديات المرتكبة في المنطقة العاشرة في بيروت. هذه التعديات، رعتها منظومة من القوانين والمراسيم التي «شرّعت» نهب الملك العام، ومن ضمنها مرسومٌ «سرّي» صدر خلال الحرب الأهلية، تم إخفاؤه ولم يُنشر في الجريدة الرسمية. هذا المرسوم، ساهم في خسارة الدولة، على مرّ سنوات، مساحات كبيرة من الأملاك العمومية في تلك المنطقة
مع تطوّر قضية الدالية، الموقع التراثي والتاريخي والطبيعي المهدد بـ»الاقتلاع» لمصلحة مشروع استثماري ضخم، «اكتشف» عدد من الناشطين والناشطات المرسوم الرقم 169 الصادر في 27/9/1989.
ويتعلّق الأخير بتعديل أحكام المرسوم الرقم 4810 المُتعلّق بإشغال الأملاك العامة البحرية من ناحية، وإلغاء بعض أحكام المرسوم الرقم 4918 المُتعلّق بتنظيم المنطقة العاشرة في مدينة بيروت من ناحية أخرى.
هذا المرسوم الصادر عن حكومة الرئيس سليم الحص، في ظل وجود حكومة أخرى برئاسة ميشال عون، سمح بإشغال الأملاك العامة البحرية في المنطقة العاشرة، بعدما كان الإشغال في هذه المنطقة محظوراً. كذلك ألغى القاعدة التي كانت تفرض على مالكي العقارات في المنطقة العاشرة التخلّي عن ملكيّة 25% من مساحة عقاراتهم لتكون ملكاً عامّاً لبلدية بيروت، في حال أرادوا الحصول على ترخيص لإقامة إنشاءاتٍ معيّنة فيها.
لسنوات طويلة، بقي هذا المرسوم «مخفيّاً»، إذ لم يُنشر في الجريدة الرسمية وفق الأصول وبقي سرّياً، «بسبب فداحة المخالفات التي تضمنها هذا المرسوم، وأيضاً بسبب الانقسام الحكومي آنذاك»، وفق ما يقول المحامي نزار صاغية في المراجعة التي تقدّم بها الى مجلس شورى الدولة، منذ سنتين، للطعن في المرسوم وإلغائه، وذلك بالنيابة عن جمعيتي «نحن» و»الخط الأخضر».
ففي 25/9/2014، تقدمت كل من الجمعيتين المذكورتين بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة للمطالبة بإلغاء المرسوم «الذي أنتج جميع مفاعيله وسلب المال العام من دون أن يعلم به أحد، إلا في دوائر ضيقة مغلقة»، بحسب المراجعة التي تشير الى أن «اكتشاف» هذا المرسوم بيّن حجم الخسارة التي وقعت للدولة من جرّائه والتي تمثّلت في فقدان مساحات كبيرة من الأملاك العمومية، «فضلاً عما تُمهّد له هذه المخالفة الكبيرة من خسائر فادحة مستقبلاً». ولعلّ أبرز تلك الخسائر هو المسّ بحقوق الناس بالوصول الى الشاطئ واستعمال الأملاك العمومية.
تجاوز حدّ السلطة
من حيث الشكل، لفتت المراجعة إلى وجوب قبول طلب إلغاء المرسوم لوروده ضمن المهل القانونية نظراً إلى عدم نشره في الجريدة الرسمية، وبالتالي تكون مهلة الطعن به لم تبدأ بعد. أمّا في الأساس، فاستندت المراجعة الى وجوب الغاء المرسوم لتجاوزه حد السلطة في ثلاث نقاط:
أولاً: صدور المرسوم خلافاً للأصول الجوهرية المنصوص عليها في القوانين والأنظمة، ذلك أن المرسوم صدر دون استطلاع رأي المجلس الأعلى للتنظيم المدني ومجلس بلدية بيروت ومجلس شورى الدولة، وتُعدّ استشارة هذه الهيئات الثلاث من الأصول الجوهرية المفروضة.
ثانياً: صدوره عن هيئة غير شرعية وإلا غير مختصة. هنا، تشير المراجعة الى أن المرسوم صدر عن حكومة برئاسة الرئيس سليم الحص بتاريخ 21/10/1989 بعد استقالة هذه الحكومة في 22/9/1988 وبعد تشكيل حكومة أخرى برئاسة العماد عون (..) «فيكون المرسوم المطلوب إلغاؤه صادراً عن حكومة غير شرعية».
وتستطرد المراجعة، «على فرض صحة استمرار حكومة الرئيس سليم الحص بممارسة صلاحياتها بعد استقالتها (..)، فإنها تكون في هذه الحالة حكومة تصريف أعمال ويكون الهدف الوحيد من وجودها هو تنظيم انتخابات نيابية. وبالتالي إن موضوع المرسوم «يتجاوز مفهوم تصريف الأعمال ولا يوجد أي مبررات لإصداره في هذه الظروف الاستثنائية»، وبالتالي «يكون المرسوم قد صدر عن سلطة تجاوزت اختصاصها».
ثالثاً: وجوب إلغائه لتجاوزه حدود السلطة نظراً إلى تنازله عن أموال الدولة العمومية خلافاً للأصول. فقد نصت المادة الثانية من المرسوم على إلغاء الفقرة (د) من المادة الأولى من المرسوم الرقم 4918 تاريخ 2/3/1982 (التي كانت تنص على تنازل أصحاب العقارات المشمولة بالمرسوم عن قسم من عقاراتهم لمصلحة الملك البلدي العام)، ونصّت على إعادة مساحة 25% المتنازل عنها لمصلحة الملك البلدي العام.
واعتبرت المراجعة أن المرسوم أدّى من خلال إلغاء هذه الفقرة الى نقل ملكية أملاك عمومية للبلدية الى ملكية أفراد خصوصية، في مخالفة واضحة للقرار الرقم 144 الصادر في 10/6/1925 (الأملاك العمومية) الذي ينص في مادته الأولى على أن الأملاك العمومية «لا تُباع ولا تكتسب ملكيتها بمرور الزمن».
وأضافت المراجعة في هذا الصدد أن «من الثابت عدم جواز نقل أملاك الدولة العمومية إلا من خلال إسقاطها لحساب أملاك الدولة الخاصة وبيعها وفقاً للإجراءات المنصوص عليها في القرار الرقم 275 الصادر في 25/5/1926 (إدارة وبيع أملاك الدولة الخصوصية) وبذلك يكون المرسوم قد تجاوز حدود السلطة.
ثلاثة متغيرات
وبحسب جمعية «المُفكّرة القانونية»، نتج من هذا المرسوم ثلاثة مُتغيّرات: المتغيّر الأول يتمثّل بإلغائه الاستثناء الذي كان يحظر الترخيص لأيٍّ كان بإشغال الشاطئ حصراً في هذه المنطقة، «وبذلك، فقدت شطآن هذه المنطقة خصوصيتها كمتنفسٍ لأهالي العاصمة». اللافت هو ما تُشير اليه «المُفكّرة» هنا وهو أن ما يزيد هذا التغيير خطورة هو أن الحكومة بالغت وتبالغ في منح حقّ الإشغال الحصريّ للشاطئ، وذلك على الرغم من تشديد المرسوم الناظم لإشغال الأملاك العامة البحرية (1966) على وجوب ممارسة هذه الصلاحية استثنائياً.
المُتغيّر الثاني، يتمثّل بإلغاء المرسوم القاعدة التي كانت تفرض على مالكي العقارات في المنطقة العاشرة التخلّي عن ملكيّة 25% من مساحة عقاراتهم لتكون ملكاً عامّاً للبلدية، في حال أرادوا الحصول على ترخيص لإقامة إنشاءاتٍ معيّنة فيها، «وهو بذلك ألغى خصوصيةً أخرى للمنطقة، مفادها ربط أيّ تصريح باستثمارٍ خاصّ فيها بمنح الحاصل عليه للبلدية مساحاتٍ تسمح لها بتأمين أماكن مفتوحة للجميع ومجاناً، في مسعى يرمي إلى التوفيق بين تمكين المالك من استثمار عقاراته وحقوق أهالي العاصمة».
يقول المحامي صاغية لـ»الأخبار»، إن أهمية الطعن بالمرسوم تكمن في التصويب على أهمية هذه القاعدة التي كانت تُجبر المالك على التخلي عن جزء من ملكه لمصلحة الملك العام «فإذا بالمرسوم يُشرّع التفريط بالملك العام وتحويله الى مُلك خاص».
من هنا، يأتي المُتغيّر الثالث الذي تُشير اليه «المُفكرة»، وهو أن إلغاء القاعدة أعاد إلى مالكي منتجع «المريلاند» المقام في هذه المنطقة (تحوّل لاحقاً الى مشروع ضخم هو منتجع «موفمبيك»، الذي حظي بتراخيص استثنائية تخالف جملة واسعة من القوانين والمراسيم)، المساحات التي كانوا قد تخلّوا عنها لمصلحة بلدية بيروت من أجل الحصول على الترخيص ببناء منتجعهم. وبالتالي، قونن المرسوم، السطو على الأملاك العامة خلال فترة الحرب، «بحيث تمّ بواسطته تجريد بلدية بيروت من مساحات واسعة عنوةً ومن دون أي مقابل».
لم يسبق أن حدث تحرّك قضى باستعادة متر من الأملاك العامة البحرية التي نُهبت خلال الحرب، وفق ما يقول صاغية، مُشيراً الى رمزية هذه الدعوى التي تندرج ضمن «وضع حدّ لخصخصة الأملاك العامة البحرية واستعادة فكرة الشاطئ وما يعنيه للعموم وعلاقتهم مع البيئة وملكهم العام».
لم تتمكّن الجمعيتان من الطعن بالتغيير الأول، على حدّ تعبير «المُفكّرة»، المتمثّل برفع الحظر عن الترخيص بالإشغال الحصريّ للشاطئ في هذه المنطقة. وذلك بسبب إصدار الحكومة في ما بعد مرسوماً آخر بهذا الخصوص في 30/10/1995، ونشرته في السنة نفسها في الجريدة الرسمية، «ليصبح بمنأى عن الطعن بحكم انقضاء شهرين من تاريخ نشره»، وبالتالي اكتفت الدعوى بالطعن في المتغيرين الباقيين.
الخلاف حول الصفة والمصلحة
يقول صاغية إن تبادل اللوائح الجوابية انتهى بين الأطراف المعنية، مُشيراً الى أن بلدية بيروت امتنعت عن إعطاء رأيها في هذه الدعوى، علماً بأنها المعنية الأولى فيها، فيما طالب ممثّل رئاسة الوزراء السابق، القاضي المتقاعد سهيل بوجي برد الدعوى لانتفاء الصفة والمصلحة. ويُشير صاغية إلى أن المُستشار المُقرّر سميح مدّاح رأى أنه ليس للجمعيتين صفة أو مصلحة بالطعن في المرسوم خلافاً لرأي مفوّض الحكومة المعاون ناجي سرحال، «فإمّا تُردّ الدعوى أو تعتبر أن للجهة الطاعنة صفة ومصلحة ويُفتح المجال لإلغاء المرسوم والمخالفات التي يحويها». يرى صاغية أن الصراع حالياً يدور حول إثبات امتلاك الجمعيات الأهلية الصفة والمصلحة والعمل على الخروج من القيود القانونية الضيّقة التي يجري الاستناد اليها في القضايا ذات المنفعة العامة.
توضح «المُفكّرة» أن المسألة المطروحة أمام مجلس شورى الدولة لا تتصل بتطبيق قاعدة تقنية حاسمة، ولا برؤيته لدور الجمعيات وبشكل أعمّ المواطنين في الدفاع عن المصلحة العامة، إنما بالدرجة الأولى برؤيته لماهية وظيفته وحدودها، «ففيما يؤدي تضييق مفهوم الصفة والمصلحة إلى تحصين قراراتٍ إداريةٍ كثيرةٍ إزاء رقابته لغياب أصحاب المصلحة في الطعن فيها، يؤدي التوسّع فيه إلى تعزيز هامش التدخّل لديه صوناً لمبدأ الشرعية».
وكانت «المُفكّرة» قد أشارت الى أن المستشار المقرّر أسند رأيه إلى أنّ مصلحة الجمعية في طلب إبطال قرار إداريّ تتوفر فقط إذا كان من شأنه «أن يحول دون إمكانية سعيها لتحقيق أهدافها (..)»، وخلص إلى وجوب ردّ الدعوى لانتفاء المصلحة المباشرة، طالما أن المرسوم يقتصر على وضع ضوابط لإشغال أملاكٍ عامّة بحريةٍ ليس من شأنها أن ترتّب أيّ أثرٍ يحول دون تحقيق الجهة الطاعنة لأهدافها. هنا اعتبرت «المُفكّرة» أنه وفق «منطق» المُستشار مدّاح، لا يكفي أن يكون المرسوم مخالفاً للقانون أو متعارضاً مع أهداف الجهة الطاعنة وتطلّعاتها وضمناً مع المصلحة العامة التي تختصّ في الدفاع عنه، بل لقبول صفتها يجب أن تكون «الطاعنة» قد تكبّدت من جرّاء المرسوم ضرراً ماديّاً خاصّاً يتمثّل بمنعها عن ممارسة عملها أو إعاقته، الأمر الذي دفع «المفكرة» الى القول بأنه «تبدو وظيفة القاضي الإداريّ في هذا التعريف وكأنها تنحصر في حماية المتقاضين إزاء الأضرار التي قد تمسّهم مباشرةً، فيما يرفع يده عن مسائل الإضرار بالمصلحة العامة، والتي تبقى بالنتيجة حكراً للسلطات الحاكمة».
هذا الرأي يأتي مناقضاً لتعريف مفوّض الحكومة المعاون لمفهوم المصلحة الشخصيّة والمباشرة، والذي رأى أن المصلحة التي يقتضي أن يأخذها القضاء الإداريّ بالاعتبار عند النظر في صفة ومصلحة الطاعن في دعوى إلغاء أو إبطال قرارٍ إداريّ «هي أوسع وأشمل من معنى المصلحة التي تجيز رفع الدعاوى الأخرى». وبالتالي، وجد المفوض مصلحة مباشرة وشخصيَة لدى الجهة المدعية، طالما أن المرسوم المطعون فيه «يحرم الشعب من ارتياد البحر الذي هو من الأملاك العامة المحددة قانوناً»، وأن نظامها ينصّ على «أنها تعنى بكلّ ما يؤدّي إلى خدمة المجتمع اللبنانيّ عبر النشاطات المتعلقة بالمحافظة على البيئة وحمايتها». واستخلصت «المفكّرة» من هذا الرأي رؤية مختلفة مفادها أن تدخّل المجلس لا يهدف فقط إلى حماية المصالح الشخصية، إنما أيضاً إلى حماية مبدأ الشرعية والمصلحة العامة، «وهو تدخلٌ إيجابيّ لا يأتي فقط كاستجابة للطعن المقدّم أمامه، وإنما ينبع أيضاً من رغبات المجلس وقناعاته بأداء دوره الرقابيّ على القرارات الإدارية، والتي من المتوقّع أن تزيد بقدر ما تزيد الأضرار الاجتماعيّة المتأتية عنها أو تفضح الظروف المحيطة بإصدارها انتهاكاً جسيماً لمبدأ الشرعية».