نعرف ما يهم النواب (في معظمهم) من الجلسات المنقولة مباشرة على شاشات التلفاز وعبر أثير الإذاعات. وهذا التقليد اللبناني العريق لم يعد له، في تقديرنا، أي مبرّر:
أولاً – كان البث المباشر لجلسات مجلس النواب دليلاً على حيوية الحياة الديموقراطية في لبنان… إذ في وقت كانت الأفواه مكمومة في هذه الأمة من الماء الى الماء، كان في هذا البلد برلمان ينقل للمواطنين، مباشرة، وقائع جلسات المناقشة العامّة التي كثيراً ما كانت المعارضة تنشر خلالها غسيل الحكومة على منشر ساحة النجمة، يومها كان في لبنان موالاة ومعارضة، وكان الحجمان متساويين تقريباً. ولم يكن مجلس الوزراء يضم سائر كتل وأحزاب وتجمعات وأطياف النواب. أما اليوم فالكتل والأحزاب والتكتلات كلها منخرطة في الحكومة، إلاّ ما ندر. وبالتالي إذا تمعّنا بدقة في مداخلات النواب المتكلمين لوجدناها صادرة عن هذه الأطراف التي لها ممثلون في الحكومة. وهذه إما مراهقة ديموقراطية في وطن عريق بديموقراطيته، وإما نفاق سياسي وهذا غير مقبول، ويمكن تسميته بـ«الضحك على ذقون الناس».
ثانياً – كان في مجلس النواب مجموعة من الأقطاب البارزين والأساتذة الألمعيين الذين إذا تحدثوا فإنهم يدركون ما يقولون أمثال: ريمون إده، وكاظم الخليل، وكميل شمعون، وصائب سلام، وبهيج تقي الدين، ونصري المعلوف، وكامل الأسعد، وعادل عسيران، وحسن خالد الرفاعي (أمد اللّه في عمره)، وعاشق الديموقراطية من باب المعارضة ألبير مخيبر، وبيار الجميل، ورشيد كرامي، والأب سمعان الدويهي، وعبداللّه اليافي، وكمال جنبلاط، ورينيه معوّض، وسليمان فرنجية (الرئيس) الذي كان يتكلم مرّة في السنة خلال مناقشة الموازنة العامة فيقرأ خطاباً يستمر نحو ساعتين يسيطر خلالهما الصمت المطبق حتى اللاحركة بل شبه قطع أنفاس ما يصح فيه المثل السائر: «ارمِ الإبرة تسمع رنتها»… وسواهم الكثيرون من القامات البرلمانية والوطنية العملاقة. (أمثال القدامى بشارة الخوري، وإميل إده، وإميل لحود، ويوسف الخازن، وحميد فرنجية).
ثالثاً – صحيح أنّ النقل المباشر لجلسات المناقشة العامّة كان من شأنه أن يشكل حالاً إعلامية يستفيد منها النواب، ولكنهم ما كانوا يتوسلونها فقط للبروباغندا وحسب كما هي الحال مع معظم المتكلمين هذه الأيام في الجلسات المنقولة مباشرة.
ولكن الأهم من هذا كله أن أولئك الكبار كانوا ظرفاء قدر ما كانوا ذوي خبرة في المسؤولية البرلمانية المترتبة على النائب في وجهيها التشريعي والرقابي. ولو شئنا أن نضرب أمثالاً عن ظرف بعضهم لأسهبنا طويلاً، ونكتفي اليوم برواية أحد الأساليب التي كان يعتمدها أحد رؤساء المجلس النيابي السابقين المرحوم صبري بك حمادة الذي كان إذا وجد الحكومة في مأزق، أو إذا لاحظ أن المناقشات ماضية الى طرح الثقة في الحكومة على غير ما جرى ترتيبه في «اللعبة البرلمانية» كان يبادر الى وضع يده بلهفة على صدره لجهة القلب، ثم يهوي برأسه على منصّة الرئاسة ما يشير الى إصابته بنوبة قلبية… فتفرط الجلسة حكماً، وتنجو الحكومة!