جميع المقاتلين ضد قوات روسيا/ الفيلق الخامس (التابع نظرياً لنظام بشار الأسد) في حماة وإدلب، كانوا يسيطرون على المنطقة منذ ربيع 2015 أو جاؤوا تباعاً إلى شمال غربي سورية برعاية روسية، بدءاً بضمان تركي – روسي للانسحاب من حلب (2016)، وصولاً إلى إشراف روسي على ترحيل مَن رفضوا “مصالحات” النظام في الغوطة الشرقية ودرعا (2018). بديهي أن القادمين متشدّدون في مناهضة النظام وغير مصنفين “إرهابيين” إلا في إعلام الروس والإيرانيين والنظام، وعلى رغم وجودهم في مناطق تخلطهم بمقاتلي “هيئة تحرير الشام/جبهة النصرة سابقاً” إلا أنهم لا يشاطرون تلك “الهيئة” وأتباعها من مبايعي تنظيم “القاعدة” هدف إقامة “إمارة إسلامية”، بل يعتبرونها مع تنظيم “داعش” من الأدوات التي استُخدمت لاختراق ثورة الشعب السوري وضربها وتشويهها. فالجميع استعدى هذه الثورة أو شكّك بها، من الروس والأميركيين إلى الاوروبيين، بسبب وصمة الإرهاب التي جاءت بها “النصرة” و”داعش”، حتى أن نظام الأسد والإيرانيين توسّلوا “الحرب على الإرهاب” للتطهّر من جرائم الحرب التي ارتكبوا أكثر من 90 في المئة منها لترهيب المدنيين واقتلاعهم من مواطنهم.
بعد ترحيل هؤلاء المقاتلين إلى الشمال الغربي، كان الاعتقاد السائد أنهم لن يُهاجَموا مجدّداً، لأن لا مكان آخر يُجلَون إليه بشرط أن يخضعوا لقواعد “خفض التصعيد” الذي يُفترض أن تضبط المنطقة، لكنها لم تضبطها في أيّ من المناطق الأربع بل كان “خفض التصعيد” وسيلة لتصفية وجود فصائل المعارضة في مناطق سيطرتها. في كل ذلك استندت روسيا إلى مشاركة حليفتيها في تلك التصفية لقاء مكافآت. نالت تركيا ضوءاً أخضر للشروع في نشر نفوذها، أولاً بطرد “داعش” وإقامة منطقة “درع الفرات” غربي النهر ثم باجتياح منطقة عفرين وإجلاء المقاتلين الأكراد عنها. أما ايران فمدّت وجود ميليشياتها إلى مناطق “خفض التصعيد” المستعادة “لمصلحة النظام” وحصلت على “غضّ نظر” روسي عن تموضع أتباعها في المناطق الحدود السورية – العراقية.
توقفت الحروب عملياً عند حدود شمالي سورية، شرقاً دير الزور والرقة وغرباً إدلب وريف حماة الشمالي، لكن النظام وحليفه الإيراني طلبا مواصلة القتال حتى إكمال السيطرة وصولاً إلى الحدود مع تركيا. هنا اختلفت الحسابات بين موسكو ودمشق – طهران، فهذان الحليفان لا يباليان بنتائج أي اجتياح وبأكثر من مليوني نازح جديد سيندفعون إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. في ذلك الوقت كانت موسكو تركّز على ما بعد إنهاء الحرب بغية اجتذاب التأييد الغربي لخطّتي استعادة اللاجئين وإعادة الإعمار في مقابل تسهيل الحل السياسي، مدركة أن هدف حليفيها من الإلحاح على الاجتياح هو إحباط ذلك الحل الذي مهّدت له بلقاءات استانا و”المؤتمر السوري” في سوتشي (آخر كانون الثاني/ يناير 2018). ومع أنها لم تلق الاستجابة الغربية التي تمنّتها لخططها فقد أحجمت روسيا عن خيار الاجتياح لئلا تواجه وحدها تداعياته الخارجية، بل وجدت أنه لن يكون مجدياً استخدام تلك التداعيات لابتزاز الدول الغربية. لذلك شكّل الاتفاق الروسي – التركي في شأن إدلب نوعا من الحل الوسط الذي يعزز نفوذ أنقرة، خصوصا أنها استحقّته بعدما وقّعت على صفقة شراء صواريخ “إس 400” الروسية.
لم تكن أهداف نظامي الأسد والملالي من الزحف على الشمال الغربي، بدعم جوي روسي، لتقتصر على استعادة السيطرة وضرب الحل السياسي والتصفية النهائية لأي معارضة سورية مقاتلة، بل انطوت على وضع موسكو في مواجهة منطق وحتميّة الاستحقاق التالي: الزحف على الشمال الشرقي لإخراج الأميركيين من سورية ومن معادلة الصراع وحل الأزمة. كانت موسكو طالبت مراراً بلسان سيرغي لافروف بالانسحاب الأميركي، لكن في سياق غضبها من رفض واشنطن التفاوض على سورية أو سعياً من روسيا إلى تغيير الشروط الأميركية للتفاوض (إخراج إيران، تقنين التدخّل التركي، إبقاء النظام من دون الأسد…). وعندما أعلن الرئيس الأميركي (أواخر 2018) الانسحاب “سريعاً” من شمال شرقي سورية قوبل بترحيب روسي حصيف، خلافاً لتهليل إيران التي اعتبرته “هزيمة” أميركية جديدة وتهيّأت لجني ثمار “النصر” وأهمها فتح طريق طهران – بيروت مروراً ببغداد ودمشق. لم يتمّ الانسحاب لكن موسكو منعت حليفيها من استغلال خفض الوجود الأميركي وأعادت تنشيط التنسيق مع إسرائيل بغية استدراج تفاوض مع واشنطن.
منذ لحظة توقيع اتفاق بوتين – أردوغان في شأن إدلب حدّد الخبراء العسكريون سببين لعدم تطبيقه: ضغوط النظام والإيرانيين لإفشاله، واستحالة نجاح الأتراك في إقناع فصائل “القاعدة” بانسحاب طوعي، يضاف إلى ذلك أن الثقة تبقى متواضعة بين موسكو وأنقرة، ما يجعل الأخيرة حذرة في التطبيق، مدركة أن المتوقّع منها طرد “هيئة تحرير الشام” وأخواتها أو تصفّيها عسكرياً والاعتماد على فصائل “الجبهة الوطنية للتحرير” (الجيش الحرّ) في ضبط الأمن، لكن شيئاً لا يضمن أن لا يعود الروس للمطالبة بـ “مصالحة” مع النظام سبق لتلك الفصائل أن رفضتها. هذه الحسابات جعلت أنقرة تكتفي بتفاهمات حدٍّ أدنى تمكّنها من الإمساك بالأرض وزرع نقاط مراقبة تأميناً لمصالحها بعيدة المدى. ولعل سببين أدّيا أخيراً إلى إشعال جبهات ريفَي إدلب وحماة، أولهما نفاد صبر الروس واحتياجهم إلى التصعيد تغيير الوضع الميداني في مواجهة الشروط التفاوضية لواشنطن، والآخر استياؤهم من التفاهمات الأميركية – التركية في شأن “منطقة آمنة” في شمال سورية.
لكن التصعيد جاء في وقت غير مناسب للنظام الذي كشفته الأزمة المعيشية في المناطق الواقعة تحت سيطرته، وغير مناسب أيضاً للإيرانيين الذين باتوا على يقين بأن الروس في صدد المساومة على وجودهم في سورية. بدا الحليفان وجمهورهما غير معنيين بـ “نصر” تريده روسيا لاستثماره ضدهما في نهاية المطاف. حاول الإيرانيون تغيير الوجهة بإطلاق صواريخ من القنيطرة على الجولان، لكن الردّ الإسرائيلي جاء مركّزاً وموجعاً، كما جاء الرد الروسي بتسهيل تدمير إسرائيل أي لشحنة أسلحة وصلت لتوّها من إيران إلى مطار “تي فور” (حمص)، ويُتوقّع أن يتكرّر السجال الصاروخي من دون أن يذهب الإيرانيون إلى حدّ المواجهة المفتوحة. وبعدما سحبت ميليشيا الأفغان (الفاطميون) أخيراً ونقلتها إلى مناطق حدودية داخل أفغانستان تحسّباً لمواجهة محتملة مع الأميركيين، تردّد أن طهران أبلغت أتباعها في سورية ضرورة تمويل أنفسهم محلياً، وسينعكس ذلك على المناطق التي استغلّوا دمارها وفقر أهلها لاستقطابهم وفرض التشيّع عليهم.
تغيّرت التوجهات وتداخلت المصالح في ريفَيْ إدلب وحماة، حيث تدور إحدى أسوأ أنواع الحروب القذرة واللاأخلاقية، ففيما تحارب روسيا وتناور بدم السوريين إلى حدّ أنها ترفض مجرد الحديث عن وقفٍ لإطلاق النار، باتت قاعدتها في حميميم تبث نصائح للمدنيين (من جانب واحد) وخرائط للإخلاء والنزوح، ولا تمانع دمشق وطهران في أن يُمنى فيلق “النمر” سهيل حسن بهزيمة لأنه خرج عن طوعهما ليعمل للروس ولحسابه، كما لا تكترثان بعجز روسيا عن حسم المعركة طالما أنها لم تعد تشركهما في خططها وأهدافها. بموازاة ذلك تخوض تركيا مواجهة خطرة مع أميركا بسبب الصواريخ الروسية، لكنها تجد نفسها جنباً إلى جنب معها لاستخدام السوريين في حرب بالوكالة ضد روسيا، وفي الوقت نفسه تلاقي أنقرة حاجة طهران إليها لتنفيس ضغوط العقوبات الأميركية بروح تعاونية وبمعزل عما يحصل وسيحصل، إذ لم تعد إدلب محلّ تجاذب أو تنافس بينهما. وفي انتظار أن يتوصّل الأميركيون والروس إلى تفاهم جديد أو صفقة تتحوّل حرب شمال غربي وتتحول إلى عملية استنزاف طويلة.