في ذاك النهار من صيف 2001، لم يكن أحد يعلم ماذا يجري، كانت الأجواء أجواء مصالحة في الجبل وطيّ صفحة دمويّة سوداء من تاريخ لبنان.
لم تكن هناك وسائل تواصل إجتماعي لنقل الأخبار، ولم يكن الهاتف يوثّق كل الإرتكابات كما اليوم، ولم تكن توجد خدمة الخبر العاجل، وفجأة نسمع في نشرات الأخبار في 7 آب عن موجة إعتداءات واعتقالات للناشطين ضدّ الإحتلال السوري والتهم كانت مختلفة، منهم من رُكّبت لهم ملفات على أساس التعامل مع إسرائيل، وآخرون اتُهموا بزعزعة الأمن، لكن الحقيقة كانت واحدة وهي أن النظام الأمني اللبناني – السوريّ إنقضّ على من تجرّأ ورفع صوته في وجهه، مطالباً بالحريّة والسيادة والإستقلال وخروج جيش الإحتلال السوري من لبنان.
لم يكن تعامُل الدولة الأمنية البوليسية مع المعتقلين حضارياً، فمنهم من دهمتهم في بيوتهم منتصف الليل، وآخرون ضُربوا أمام أعين الجميع في ساحة العدليّة، وكل ذلك من أجل القول إن السلطة “الفاشيّة” كشّرت عن أنيابها وشعرت أن هناك شيئاً ما يتحرّك، وأن المصالحة الداخلية يمكن أن تؤسّس لمرحلة وحدة لبنانيّة.
وما كانت تخشاه سلطة الإحتلال حدث، إذ إن التقارب اللبناني – اللبناني حصل بعد التمديد للرئيس إميل لحّود في 3 أيلول 2004، وتكوّنت جبهة من المكوّن المسيحي إضافة الى الحزب “التقدّمي الإشتراكي” والرئيس رفيق الحريري، وكانت تهدف إلى تطبيق إتفاق “الطائف” خصوصاً في الفقرة التي تنصّ على خروج الجيش السوري من لبنان، لكن إغتيال الرئيس الحريري قلَب المشهد السياسي رأساً على عقب وتحقق الخروج السوري وأُنجز الإستقلال.
اليوم، وبعد 18 عاماً على 7 آب، ما زالت هذه الذكرى راسخة في أذهان الذين قاوموا الإحتلال، تُقاوم النسيان، لكنّ هناك عدداً من الملاحظات، إذ يوجد “كيل بمكيالين” واعتماد منطق “الصيف والشتاء تحت سقف واحد”، خصوصاً في التمييز بين من قاوم الإحتلال السوري ودفع دماً ومن قاوم الإحتلال الإسرائيلي، وكأنه يوجد إحتلال بـ “سمنة” وآخر بـ “زيت”.
اليوم يقف المواطن اللبناني أمام كل تلك المتغيرات ويراقب ماذا حصل بين 7 آب 2001 و7 آب 2019، وماذا حلّ أيضاً بالثالوث المقدّس الذي كان مطلب المقاومين وهو الحريّة والسيادة والإستقلال.
فبالنسبة إلى الحريّة، فإنه وعلى رغم كل الملاحظات، يبقى لبنان بلد الحريّات، والتي قد تصل في مرحلة معيّنة إلى حدود الفلتان. تحصل إنتهاكات من فترة إلى أخرى، ويحدث تعدٍّ على الحريات، لكن الأساس يبقى تطبيق القانون.
أما بالنسبة إلى السيادة، فلم تتأمّن نتيجة الإنسحاب العسكري السوري، فالقاعدة الأساسية للسيادة هي فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها، لكن الشعب اللبناني يتأسّف لأن هناك جيشاً مقابلاً للجيش الشرعي، وهذا الجيش هو جيش “حزب الله” ويستطيع أن يستعمل سلاحه في الداخل لتحقيق المكاسب مثلما فعل في 7 أيار 2008. وتعتبر السيادة الوطنية منتهكة أيضاً بسبب وجود السلاح الفلسطيني.
وبالنسبة إلى الإستقلال، فإنه لم يتحقق نتيجة إنقسام لبنان بين محورين، كذلك، فإن السفراء على اختلاف مشاربهم يتدخلون في السياسة اللبنانية.
آب اللّهاب، هكذا يُعرف هذا الشهر في لبنان، وبالتأكيد كان هذا الشهر عام 2001 لهّاباً، إذ شكّل محطة أساسيّة من محطات النضال ضد سلطات الإحتلال السوري وأذرعتها اللبنانيّة، فـ “العين قاومت المخرز” وانتصرت، لكن الأساس يبقى بالعبور نحو الدولة وتسليم سلاح الميليشيات لأن لا قيام للدولة في ظلّ عدم حصريّة السلاح.
وبعد 18 عاماً عادت اللعبة الى ما قبل 2005، إذ أن “التيار الوطني الحرّ” بات حليف المحوّر السوري – الإيراني، وبدّل سياسته 180 درجة، والنظام السوري الذي أُخرج من الباب عاد من الشبّاك خصوصاً من خلال الإنتخابات النيابية الأخيرة التي حصد “حزب الله” وحلفاؤه فيها الأغلبية البرلمانية، بينما فقدت قوى “14 آذار” هذه الأغلبية التي حققتها في إنتخابات 2005 و2009.
أما المدير العام للأمن العام آنذاك اللواء جميل السيّد فكان الذراع الأمنية للنظام البوليسي اللبناني- السوري وكان رأس حربته في ملاحقة كل ثائر على النظام ومطالباً بالحرية، وكان يلاحق شباب “التيار الوطني الحرّ” و”القوات اللبنانية” وبقية الشباب المقاوِم ويشرف على الملفات، وبعد مرور 18 عاماً عاد السيّد إلى لعب دور سياسي، وأصبح نائباً وحليفاً لـ “التيار الوطني الحرّ” وقد غفر “التيار” له كل خطاياه وذنوبه، وبات يزور القصر الرئاسي باستمرار وينسق مع النواب العونيين، وكأنه لم يضطلع بأي دور في تلك المرحلة حسب الذاكرة العونيّة.