لم تكن الساحة الفلسطينية منقسمة على ذاتها مثلما هي الآن، إذ تجاوز الانقسام المواجهات بين الفصائل المختلفة ليصل إلى الانقسام داخل الفصيل الواحد، ولعل ما يجري داخل حركة «فتح» هو تأكيد لما ذهبنا إليه من أن الوضع مقلق بل مقلق للغاية، لأننا نمر بمرحلة خطيرة على المستوى الدولي وشديدة الحساسية على المستوى الإقليمي، وهو وقت نحتاج فيه إلى تماسك فلسطيني ـــ فلسطيني يمكن أن نتجاوز به الظروف المعقدة في ظل إدارة أميركية جديدة وغطرسة إسرائيلية معتادة ووطن عربي ممزق ومثخن بالجراح في سورية واليمن وليبيا وفي غيرها من الدول العربية، فنحن لا نستطيع أن نزعم أن العالم العربي في أحسن أوضاعه أو في أكثرها استقراراً، ولذلك فإننا نطرح الملاحظات الآتية:
أولاً: كان ياسر عرفات، بكل ما له وما عليه، صاحب كاريزما قيادية جعلت منه شخصية توافقية عليها شبه إجماع لدى الشعب الفلسطيني حتى أن المواجهة الحادة بين «فتح» و «حماس» لم تنفجر في حياة عرفات ولكنها جاءت بعد انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني عام 2007، وكان عرفات قد رحل قبل ذلك بسنوات ثلاث، لذلك فإن وجود قيادة فلسطينية ذات تأثير فاعل على شعبها بمختلف فصائله هو مسألة ضرورية مع تسليمنا بأن السيد محمود عباس (أبو مازن) حاول التهدئة مع الأطراف المختلفة خلال منعطفات مرت بها القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، ولكن هناك شخصية فلسطينية أخرى تنتمي الى حركة «فتح» وتتلقى دعماً من دول عربية في مقدمها الإمارات ومصر مع ارتياح غربي وقبول إسرائيلي وهي شخصية قوية لها وجود مؤثر خصوصاً في القطاع وأيضاً في الضفة وأعني بها محمد دحلان (أبو فادي). وقد دب الخلاف في السنوات الأخيرة بين أبو مازن وأبو فادي واحتدم الصراع في شكل غير مسبوق وحاولت القاهرة التوفيق بين الأطراف المنشقة داخل حركة «فتح» ولكن أبو مازن لم يكن مرتاحاً لذلك وردد بعض معاونيه أن مصر تدعم دحلان كقيادة بديلة، وليس ذلك تحليلاً دقيقاً، فمصر تريد جبهة فلسطينية متماسكة مهما كانت الأسباب والدوافع والشخصيات، كما أن أبو مازن شخصية تاريخية في حركة النضال الفلسطيني لا يمكن تجاوزها ولكن حيوية القيادات وتجدد الزعامات هي جزء من طبيعة العمل السياسي ولوازمه الدورية، ويقيم دحلان حالياً في دولة الإمارات مستشاراً للشيخ محمد بن زايد ويزور بعض العواصم العربية والأجنبية من حين الى آخر ويلقى ترحيباً في معظمها، ولقد تحدثت الأنباء أخيراً أنه جرى اعتقال عدد من أعوانه في الضفة وربط البعض، خطأ، بين ذلك وبين ترحيل السيد جبريل الرجوب المسؤول الأمني في عهد عرفات والقيادي الفلسطيني المعروف والذي تفرغ في سنواته الأخيرة لإدارة النشاط الرياضي الفلسطيني، وكان هو الآخر شخصية مقبولة في مصر إلى أن أدت الملابسات الأخيرة إلى ما حدث في نهاية شهر شباط (فبراير) الماضي.
ثانياً: يأتي الانقسام الفلسطيني في غير وقته على الإطلاق حيث التطورات الأخيرة على المسرح الأميركي بوصول رئيس إلى البيت الأبيض يعتبر قادماً من خارج الساحة السياسية ومعروف بتصرفاته غير المعتادة ومواقفه المتشددة، وهو الذي لوح منذ جولات حملة الانتخابات الرئاسية باحتمال نقل السفارة الأميركية إلى القدس في تحدٍ سافر وموقف غير مسبوق من الإدارات الأميركية المتعاقبة التي كانت تتحفظ على قرارات الكونغرس في هذا السياق إدراكاً منها بأن ذلك سيؤدي إلى ردود فعل غير محسوبة فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وبدلاً من أن يتفرغ الفلسطينيون لهذه التطورات الجديدة والخطيرة فإنهم يكرسون الانقسام ويدخلون في مواجهات تضر بالقضية ولا تفيدها أبداً! لذلك فإننا نشعر بالأسى وبالقلق أيضاً للمشهد العام على الساحة الفلسطينية ونخشى من مخاطره على مستقبل القضية برمتها بعد معاناة طويلة للشعب الفلسطيني عبر عقود طويلة من الزمن.
ثالثاً: دعنا نشعر بحجم الخسارة التي يسببها الوضع الفلسطيني الراهن خصوصاً أنه تحققت للشعب الفلسطيني في السنوات الأخيرة إنجازات على صعيد التنظيم الدولي سواء بالعضوية في الأمم المتحدة أو في قرارات اليونسكو الأخيرة الخاصة بالتراث اليهودي في فلسطين، ومن العبث أن يبدد الفلسطينيون ما تحقق لهم عبر السنين بحالة التشرذم والانقسام التي تمثل تراجعاً يصيب القضية الفلسطينية في مقتل في ظل ظروف دولية وإقليمية تحتاج إلى الصلابة والتماسك وتقديم صورة مختلفة يبدو منها الشعب الفلسطيني الحقيقي بنضاله الأسطوري وكفاحه المتواصل وتضحياته عبر السنين، لذلك فإنني أخاطب الفصائل الفلسطينية، داخل كل منها وفي ما بينها، أن تعمل الضمير الوطني الفلسطيني وأن تتذكر دماء الشهداء ومسيرة النضال الطويل خصوصاً أن هناك مزايدات كثيرة على الشعب الفلسطيني، إذ إن إسرائيل هي الرابح الأول من تطورات السنين الأخيرة في الشرق الأوسط.
رابعاً: ربما كان الربيع العربي حقاً طبيعياً للشعوب التي كانت تسعى الى تغيير أوضاعها وتحسين ظروفها وضرب الاستبداد والفساد، إذ إن الذي حدث أن ذلك الربيع تحول إلى نقمة أو ما يشبهها حيث هجرت العقول دولها العربية ودبت الفوضى في بعض أقطارها وتمكن الإرهاب من البعض الآخر وتلقت العروبة ضربات موجعة جعلت المصير المشترك في يد غير العرب، ويكفي أن نتأمل سيطرة الروس والأتراك والإيرانيين على مفاتيح الحل في الأزمة السورية لكي ندرك حجم الخسارة التي تعرضنا لها والفرص التي ضاعت منا، فضلاً عن أن أحداث الربيع العربي صرفت الأنظار عن جوهر القضية الفلسطينية وسحبت الاهتمام منها بحيث لم تعد أخبار النزاع العربي- الإسرائيلي ولا المشكلة الفلسطينية هي التي تتصدر الإعلام في المنطقة، بل طغت أحداث الربيع العربي ومفاجآته على الجو العام وبذلك كانت خصماً سلبياً على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته حيث تراجع الاهتمام أيضاً بتطورات القضية لدى دول الربيع العربي وسيطر الهم الداخلي على سياساتها وأضحت القضية شاحبة الوجه خافتة الضوء.
خامساً: لم تقف حدود التطورات الأخيرة عند تراجع القضية الفلسطينية فقط ولو مرحلياً ولكنها تجاوزت ذلك إلى طمس معالم الكفاح المسلح الفلسطيني ومحاولة تصوير المقاومة الفلسطينية الباسلة وكأنها جزء من الإرهاب الذي يجتاح المنطقة، وتصور الكثيرون أن الأعمال الفدائية في الأرض المحتلة هي تصرفات إرهابية حيث روجت إسرائيل لذلك على نحو يتفق مع دعاياتها المسمومة ومصالحها المعروفة ومخططاتها المشبوهة. إن تنامي الظاهرة الإرهابية في الشرق الأوسط انعكس بالضرورة على القضية الفلسطينية سلباً لا بصرف الأنظار عنها فقط ولكن بالخلط بينها وبين النضال الفلسطيني العادل، ولا شك في أن الدعاية الصهيونية المعادية للفلسطينيين روجت لذلك منذ سنوات. وليس جديداً ما نتحدث عنه الآن ولكن الجديد هو أن الظروف تغيرت والمواقف تبدلت وأصبحت مواتية أكثر لتحقيق المصالح الإسرائيلية وإهمال المطالب العربية في ظل عالم مزدوج المعايير ويكيل بمكيالين.
سادساً: إن المشهد الفلسطيني الراهن يعطي انطباعاً بأن هناك اختراقات خارجية داخل بعض الفصائل الفلسطينية ولو بحسن نية من الطرف الفلسطيني، إذ إن حركات التحرر الوطني والكفاح المسلح ترحب كثيراً بالدعم الخارجي في الظروف القاسية التي تمر بها، وقد يكون ذلك مشجعاً لبعض القوى الإقليمية لمحاولة التأثير على القرار الفلسطيني لتحقيق مكاسب إقليمية خصوصاً أن هذه القضية العادلة والمزمنة في الوقت نفسه قد جرى استخدامها كثيراً باعتبارها «قميص عثمان» الذي يرتديه كل من يسعى لاستغلال القضية لمصلحته.
سابعاً: يأمل كل عربي مخلص يسعى إلى وحدة الصف العربي أن يبدأ الأمر بوحدة الصف الفلسطيني، إذ إن الشعوب في مراحل كفاحها الوطني لا تملك ترف الخلافات البينية أو النزاعات المرحلية لأن القضية أكبر وأهم من كل ذلك والعالم العربي منقسم على نفسه، وأخشى ما نخشاه أن تضيع ثوابت القضية في خضم الخلافات بحيث تقبل بعض الدول العربية في خلافها مع الآخر بما لم تكن تقبله في علاقاتها مع إسرائيل لأنها محكومة بإطار قومي أو اتفاق تعاقدي وكلاهما يحتاج إلى مراجعة.
هذه المحاور تمثل مدخلاً طبيعياً لدراسة المشهد الفلسطيني الراهن من جوانبه كافة، إذ إن التدهور العربي العام هو سبب ونتيجة في الوقت ذاته، لذلك تمسك بعض حلفاء النظام السوري بضرورة حيازتهم للسلطة الفلسطينية والشراكة في اتخاذ القرار السياسي لها، وهنا يجب ألا ننسى أولئك الذين قدموا دماءهم وأرواحهم فداءً لأوطانهم منذ أن بدأت العروبة في إطارها الثقافي خصوصاً بعد سقوط العثمانيين ولكنها لم تكتسب مكانتها ولم تمارس دورها إلا في ظل العصر الحالي.