IMLebanon

وثيقة أنهت «عهدَ الصدمات» وفتحت «عهدَ التحالفات»

 

لا يرغب أيٌّ من المسؤولين مقارَبة وثيقة «النأي بالنفس» شكلاً ومضموناً إيذاناً بانتهاء مرحلة التريّث وإحياء العمل الحكومي. فنَصّها لم يوضع بعد وصياغته النهائية ستتمّ في جلسة مجلس الوزراء عند إنعقادها. ما يطرح أسئلة عما إذا كان النقاشُ سيُفضي الى وثيقة بحجم الصدمة التي شكّلتها الإستقالة، أم إنها ستكون مجرّد مخرج لأزمة انتهت بثمن كان بخساً، لو لم تفتح الباب على تحالفات سياسية ونيابية جديدة؟

لم يقتنع كثيرون أنّ صياغة وثيقة لتفسير مبدأ «النأي بالنفس» تحتاج الى المناقشات الدائرة في الداخل والخارج والعودة الى الوثائق المرتبطة بالعهد الجديد لاستخراج العبارات التي تحتاجها.

ففي إقتناع كثيرين أنه في حال موافقة مكوّنات الحكومة على اعتماد صيغة «النأي بالنفس» في العلاقات بين لبنان والدول العربية والخليجية خصوصاً، لا تستلزم العودة الى كمٍّ من الوثائق بدءاً بـ»خطاب القسم» الرئاسي والبيان الوزاري لحكومة «استعادة الثقة»، كذلك بالنسبة الى خطابَي رئيس الجمهورية في مقرّ جامعة الدول العربية منتصف شباط الماضي في القاهرة وأمام القمّة العربية الدورية في الأردن نهاية آذار الماضي.

وتعترف مراجعُ سياسية وحزبيّة بأنّ التساؤلات التي رافقت البحث عن وثيقة «النأي بالنفس» لها ما يبرّرُها فالتفسير اللغوي لهذا المنطق ليس صعباً أو مستحيلاً متى كان التوافقُ السياسي محققّاً.

لكن ما يُبحث في الصالونات السياسية والحكومية الضيّقة فيه كثير من السيناريوهات التي تشير الى أنّ البحث تجاوز هذا المنطق الى ملفات وقضايا أخرى تتجاوز مضمونَ البيان التفسيري المنتظَر لبندٍ من بنود البيان الوزاري والذي شكّل أحد أبرز عناوين التسوية السياسية التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وبالرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة وثبت أنها إحدى الركائز الأساسية التي بقيت من التسوية السابقة ولا يمكن تجاهلُها في أيِّ تسويةٍ جديدة.

وقالت هذه المراجع إنه منذ أن أعلن الحريري التريّثَ في تقديم استقالته وعاد الى «بيت الوسط» في 22 تشرين الثاني المنصرم انشغلت المحرّكات السياسية ومطابخُ المخارج المتبادَلة بتوسيع نطاق التفاهمات بين مكوّنات السلطة بعدما تجاوزت مطبات «استقالة الرياض» واستيعاب تردّداتها السياسية والأمنية والإقتصادية على الساحة اللبنانية بنحو يضمن سلامة التركيبة الحالية ويوفّر لها الديمومة وهو ما يوحي بإمكان التفاهم على مقارَبةٍ موحّدة للملفات التي ستُناقش في السنوات الخمس المقبلة من العهد الجديد.

وقال أحد منظّري التفاهمات الجديدة الجاري بناؤها، إنّ ما رافق المعالجات منذ نشوء أزمة الإستقالة وما حققته أوحى أنّ في إمكان هذا الفريق أن يمضي كاملاً في إدارة شؤون البلاد والمؤسسات كافة طوال العهد.

وهو ما فتح البابَ واسعاً أمام تفاهمات عريضة تجاوزت موضوعَ «النأي بالنفس» الى بقية الملفات المطروحة داخلياً في مختلف المجالات الإقتصادية والإدارية والمالية والإنمائية بعد التفاهمات التي أنتجت التعيينات الأمنية والقضائية والإدارية والمناقلات والتشكيلات الديبلوماسية وفق توزيعةٍ اعتمدت «ميزانَ الجوهرجي» في تقاسم المواقع والمسؤوليات والمكاسب والمغانم المتوافرة في الدولة ومؤسساتها لتكون الضمانة القوية لعهد يمكن أن يحقق الكثير ممّا تمّ التخطيط له بالتركيبة الحالية التي ما إن فقدت أحد أركانها اهتزّت بين ليلة وضحاها، بدليل ما شعر به الجميع عند غياب رئيس الحكومة عن بيروت ولم يكن قادراً على العودة اليها بإرادته الكاملة.

تزامناً مع هذه المعادلة التي ثبت أنها كانت من ركائز التهدئة التي استدرجت الدعم الدولي بالنحو الذي شهدته البلاد عقب الإستقالة وما أنتجته وهذا لم يكن ممكناً لولا التكامل الذي نشأ بين الإدارة الداخلية للأزمة وحجم الرعاية الدولية العربية والغربية التي تحقّقت في أيام وانتجت مخارج وحلولاً لم تكن تخطر لكثيرين نعوا في الأيام الأولى مستقبلَ رئيس الحكومة وصولاً الى اعتقاد بعض القادة والوزراء أنّ الحريري قد يعتزل الحياة السياسية ولا يعود الى بيروت.

وفي كثير ممّا هو مخفيّ من المناقشات الجارية منذ أسبوعين تبادلت القياداتُ السياسية رواياتٍ عن تفاهمات أعمق وأكثر شمولاً من إحياء العمل الحكومي الذي يمكن أن يتمّ في أيّ وقت وصولاً الى بناء تحالفات للمرحلة المقبلة على كل المستويات السياسية والوطنية والإنتخابية تحديداً. فما تمّ التفاهمُ في شأنه سيعزّز مواقعَ أطراف التركيبة الحالية للسلطة بكل وجوههم وحصصهم ومواقعهم.

وفي معلومات العارفين بما بقي مخفيّاً من تفاهمات أنّ إدارة العملية الإنتخابية وفق القانون الجديد بحسابات دقيقة وبتفاهم عميق بين هذه القوى سيضمن احتفاظَها بالتكتّلات النيابية الكبرى المتحكّمة بالسلطة التشريعية تمهيداً للإمساك مجدداً بالسلطة التنفيذية في أولى الحكومات المقبلة.

وأنّ عزلَ بقية القوى التي خرجت من هذه التفاهمات وتلك في صفوف المعارضة أمرٌ ممكن وليس صعبا إذا تعاون مختلف الأطراف في تحالفاتهم الرباعية الأساسية، ولن يكونوا محرَجين إذا وسّعوا دائرة أحلافهم في بعض المناطق والدوائر الإنتخابية حصراً توصّلاً الى تكتلات خماسية او سداسية، فمن المهم أن يحتفظ «الأقوياء الأربعة» بالمواقع الأساسية من دون إغفال حقّ بقية الأطراف ببعض المكاسب المحدودة في مناطق محدّدة، وهو ما يؤدّي الى إعطاء اللعبة الإنتخابية شيئاً ممّا تفرضه الأصول الديموقراطية لتغليف تفاهماتهم الكبرى واحتفاظهم بالمكاسب التي تحققت في الأيام الأخيرة.

وتتوقّع المراجع المعنية وثيقة سياسية بسيطة لا توحي بانتصار فريق على آخر من ضمن تركيبة أهل الحكم والحكومة وإن كانت لا تُقاس بحجم الصدمة التي جاءت بها الإستقالة غير الطبيعية لرئيس الحكومة وهي تؤسّس لتفاهماتٍ تقود الحياة السياسية في المستقبل القريب والبعيد وهو ما ستُثبته التحالفاتُ على أبواب الإنتخابات في ظلّ الرغبة الجامحة بتقديم موعدها شهرين على الأقل «لضرب الحديد وهو حامٍ»، ولكي تحقّق التفاهماتُ غاياتها في أسرع وقت ممكن.