أعلنت دولة الامارات العربية المتحدة عن تدشين «بيت العائلة الإبراهيميّة» وهو مشروع نفّذته إمارة ابو ظبي في منطقة السعديات الثقافية، وذلك تجسيداً للإتفاق التاريخي الذي تمّ توقيعه في أبو ظبي بالذات في العام 2019 بين قداسة البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيّب. والعائلة الإبراهيميّة تشمل الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والاسلام وجدُّها الجامع هو ابراهيم الخليل. ويشمل «بيت العائلة الإبراهيمية» ثلاث دور عبادة: مسجداً وكنيسة وكنيساً. وسيكون جاهزاً لاستقابل الزائرين في الأول من شهر آذار القادم.
هذا التطوّر العملي في تحقيق وتنفيذ مندرجات الاعلان المشترك الصادر عام 2019 يدفعنا إلى ابداء الملاحظات التالية:
1 – هناك التباس في عنوان الترجمة العربية للاعلان لا بد من شرحه وتوضيحه نظراً لأهميّة وخطورة الموضوع. فالترجمة العربية للنص وردت بحسب التوزيع الرسمي لها تحت عنوان: «وثيقة الأخوّة الانسانيّة» أي (Document de la fraternité humaine ). في حين أنّ النص الأساسي الموجود يرد باللغة الفرنسية هكذا (Document sur la fraternité humaine) ويرد باللغة الانكليزية هكذا: (A document on human fraternity)
إنّ عنوان النص بالعربية يؤكد على أنّه النص الكامل والنهائي لموضوع الأخوّة الانسانية في الوقت الذي يؤكد عنوان النص بالفرنسية والانكليزية على نص أساسي بالتأكيد ولكنّه يتناول موضوع الأخوّة الانسانية فيجهّد ويجتهد لشرح كافة العناصر المتعلقة بهذا الموضوع ويُبقي الباب مفتوحاً لأديان أخرى غير المسيحية والاسلام ولاجتهادات أخرى بأن تضيف ما لديها.
أقسام الوثيقة
2 – في العودة إلى نص الوثيقة، وهي أمر ضروري لفهم ما ينفّذ وما يجري على الطبيعة على جزيرة السعديات في أبو ظبي حيث تمّ بناء «بيت العائلة الابراهيمية»، فإنّ الوثيقة تحوي ستة أقسام:
– القسم الأوّل يحدد الرموز الايمانية المشتركة وهي عشرة بين المسيحية والاسلام والتي في ضوئها وانطلاقًا منها تتم صياغة هذه الوثيقة.
– في القسم الثاني يتم تحديد هدف الوثيقة وتحديد الجهات المعنية بها بشكل خاص.
– في القسم الثالث تعرض الوثيقة للخلفيات والمبررات الدافعة إلى صياغتها واطلاقها كضرورة انسانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
– في القسم الرابع تتطرّق الوثيقة إلى موضوع مهم ودقيق وهو طبيعة بل حقيقة الأديان، في ما هو الدين الحقيقي، وما هو «ليس من الدين في شيء»!
– في القسم الخامس تؤكد الوثيقة أنّها وثيقة بمثابة تعهد والتزام من الكنيسة الكاثوليكية والأزهر الشريف تجاه الجنس البشري صوناً للحياة ولمصير الانسانية.
– في القسم السادس والأخير تأمل الوثيقة أن لا تكون وتبقى مجرّد أفكار ونوايا حسنة بل تتحوّل إلى وقائع وأفعال. وأن تنتقل من الاحتمال إلى الكينونة إذ بقليل من الايمان يمكن أن ننقل الجبل إذا مشينا على صراط مستقيم!
وهذا يقتضي الانتقال من التنظير الحسن إلى الممارسة الأخوية الحسنة.
3 – بهذا المعنى يمكن القول إنّ انجازات «بيت العائلة الابراهيمية» هو استجابة مباشرة للوثيقة بأن لا تبقى مجرّد أفكار ونوايا حسنة، بل أن تتحوّل إلى أبنية هي دور عبادة تحوي في الوقت عينه أماكن للصلاة والارشاد وتفاعل الحضارات والثقافات وملتقى للحوار والتعارف والتضامن والاحترام المتبادل من أجل خدمة الانسانية.
التصميم وروحية الوثيقة
4 – لقد اجتهد مصمم «بيت العائلة الابراهيمية» المهندس المعماري العالمي ديفيد ادجايي كي يكون البناء منسجماً مع روحية وثيقة الأخوّة الانسانية من جهة ومع الواقع الموضوعي للأديان من جهة ثانية، ومع المبادئ العامة التي ترعى العلاقات بين الأديان من جهة ثالثة. فلقد عمد في تصميم وبناء البيت إلى الأخذ بالأمور التالية:
– أوّلها قيام ثلاثة أبنية متساوية الحجم طولاً وعرضاً وعلواً، 30 × 30 × 30م. وهي في ذلك ذات حجم رمزي يؤكد فيه مبدأ المساواة بين الأديان. واستقلاليتها في آن.
– وثانيها جعل اتجاه المسجد نحو مكة، واتجاه الكنيسة نحو الشرق واتجاه الكنيس نحو أورشليم/ القدس.
– وثالثها استخدام الرموز المعمارية في كل بناء بما يتوافق وثقافة البناء لدى كل من الأديان الثلاث.
– رابعها احتواء كل بناء لمنصة للحوار المفتوح باعتبار أنّ الحوار هو العامل الأهم في قيام تفاهم وتعاون بين الأديان.
– خامسها إقامة حديقة تربط المباني الثلاثة وتشكّل عامل تفاعل بينها بما هي عليه من رمزية في الاخضرار والنمو والخير وحسن وسهولة العلاقة والمرور والاتصال في ما بينها.
في الخلاصة لقد اجتهد المهندس أن يجمع في آن واحد مختلف المبادئ والأفكار ليجعل من هذا البناء تعبيراً سليماً عما جاء في وثيقة الأخوّة الانسانية.
5 – على أنّ هذا الجهد في التصميم والدقة في العمل والرموز والمعاني لا يمكن فصلها عن نشاط وآراء المسؤولين في دولة الامارات العربية المتحدة الذين أثبتوا ولا زالوا يثبتون اكثر ايمانهم والتزامهم ونشاطهم في خدمة الحقيقة الأساسية التي يؤمنون بها ويعملون لها وهي الأخوّة الانسانية.
6 – سيكون من السذاجة تصور قيام عمارة الأخوة الانسانية، ليس فقط على أرض السعديات في أبو ظبي بل على ارض الله الواسعة في مختلف أرجاء العالم، وفي مثل هذا تجدر الاشارة إلى بعض المعوقات التي تواجه مثل هذا المشروع الحضاري التاريخي لخدمة الانسانية:
أولها: صعوبة الوصول إلى معادلة التساوي والتوازن بين الأديان نظراً لظروفها العقائدية والتاريخية والاجتماعية والجغرافية.
ثانيها: تنوّع الاستجابات لها: بعضها ايجابي وبعضها الآخر سلبي قد يبلغ حد التكفير لدى المتطرفين.
ثالثها: جغرافي تتواجه فيه تاريخياً ضفاف المتوسط مقابل ضفاف الخليج. فأبو ظبي اليوم هي بيروت الأمس وأبعاد التاريخ الديني طالما رسمت على شواطئ المتوسط ونموذجها فلسطين.
في الخلاصة، إن مشروع البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيّب، ولقاء الأخوّة الانسانية في ابو ظبي اعلاناً للمشروع وبداية تنفيذ له، هو رهان حضاريّ تاريخيّ يشكّل بادرة نادرة في تاريخ الانسانية. إنه وجه جديد للتاريخ، تاريخ الحضارة ولقاء البشرية على قاعدة الأخوّة بديلاً للقاء البشرية على قاعدة الحروب والعدوان والكراهية.
إنّه رهان جديد على العلاقات الانسانية، إنه رهان جديد على مصير الانسانية!
(*) باحث في الفكر الجيوسياسي