يعاني لبنان أزمة نظام سياسي وتركيبة داخلية، أكثر منها أزمة سياسيّة ضيّقة، خصوصاً أنّ الأحزاب والطوائف باتت تعتبر حجمَها أكبرَ من مساحة الوطن.
لم تنفع حتى هذه الساعة كل الإجتماعات واللقاءات والمشاورات لتأليف الحكومة، إذ إنه مرّ على أزمة التأليف نحو 240 يوماً، وفي هذه الفترة عُقد أكثر من 500 إجتماع علني، إذ كان لا يمرّ يوم إلّا ويُعقد إجتماعان في مقرٍّ معيّن. ويمكن البعض أن يقول إنّ هناك أياماً محدّدة لم تُعقد فيها إجتماعات، لكن فاتهم أنه في يوم واحد كان يحصل أكثر من 5 إجتماعات.
وبعد مرور كل تلك الفترة، يحقّ للشعب اللبناني أن يسأل سياسيّيه ماذا كنتم تفعلون في تلك الإجتماعات؟ وهل هذه المشكلاتُ عصيّةٌ على الحلّ لتحتاجَ لقاءات وإتصالات ومشاورات أكثر من مؤتمر الصلح الذي أنهى الحرب العالمية الأولى عام 1919؟ وهل يحتاج تأليفُ حكومة في بلد لا يتعدّى سكانُه الخمسة ملايين نسمة مشاورات أكثر من تلك التي قادها البابا فرنسيس لإتمام المصالحة التاريخية بين كوبا والولايات المتحدة الأميركيّة عام 2014؟
وأمام كل هذه الوقائع، تبدو الأزمة الحكومية تدور في حلقة مفرغة، إذ إنّ القضية لم تعد قضية وزير بالزائد أو بالناقص، بل إنها أزمة بنيويّة في بلدٍ يواجه خطرَ الإنهيار، والملاحظ أنه كلما تُحلّ عقدة، تُخلق عقدٌ إضافية. فبعد حلّ عقدة التمثيل الدرزي، نبتت عقدة تمثيل «القوات»، من ثمّ تمّ إصطناع عقدة «اللقاء التشاوري»، لتخرج بعدها الى العلن مسألة «الثلث الضامن» لرئيس الجمهوريّة.
كل تلك المؤشرات تدل الى أن لا حلَّ قريباً، خصوصاً إذا عمد مَن يدعم أعضاء «اللقاء التشاوري» الى حضّهم على المطالبة بحقيبةٍ سنية وليس فقط بوزير دولة سني، وهذا الأمر يثير مخاوف لدى مَن يعمل على تأليف الحكومة، إذ إنّ المعركة قد تنتقل الى هذا المربّع بدلاً من المربع الأول، أي الإعتراف بحقّهم في التمثيل.
ولا يبدو أنّ أحداً يحمل حلّاً، لأنّ كلمة السرّ الخارجيّة لم تصل بعد، لذلك ستبقى العراقيل على حالها، في انتظار نضوج تسوية إقليمية تشمل لبنان «بعطفها» وترأف به.
وفي هذه الأثناء يستعد الموارنة للإجتماع مجدداً في بكركي، فالبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وجّه الدعوة للجنة المنبثقة عن لقاء النواب ورؤساء الأحزاب والتيارات المسيحية للإجتماع يوم الجمعة.
وستحضر ملفاتٌ عدّة في لقاء الجمعة، ويبقى الأساس هو تأليف الحكومة حيث تضغط بكركي من أجل حكومة إختصاصيين.
وبغضّ النظر عنّ هذا الملف، هناك ملف جوهري بدأ البطريرك بالحديث عنه وهو الخطر على النظام والدستور والذهاب الى مثالثة تقضي على الوجود المسيحي ودوره. ويحتاج هذا الموضوع إلى بحث معمّق لأنّ غياب الرؤية للمستقبل هو السمة الجامعة بين معظم القادة.
ويستعمل عدد من السياسيين المسيحيين «إتفاق الطائف» متراساً يتحصّنون خلفه خوفاً من الآتي، خصوصاً في شقّه المتعلّق باحترام المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
ويرى البعض أنّ الخلافات المسيحية هي التي تعوق وضع رؤية مستقبلية والحفاظ على الدور التاريخي الذي جعل المسيحيين آباءَ فكرة لبنان، لأنّ وضع بقية الطوائف ليس أفضلَ من المسيحيين بكثير.
ويلاحظ مَن يعمل على وضع رؤية مستقبلية أنّ السنة والشيعة والدروز في أزمة حقيقية لا يستطيع أحدٌ إنكارَها. فالشيعي ربَط نفسَه بالمحور الإيراني مادياً وعسكرياً عبر «حزب الله»، وأيُّ نكسة لإيران ستنعكس عليه حكماً، كما أنه يدفع فاتورةً غالية لهذا الإرتباط العضوي حيث يقاتل ويقدّم خسائر بشرية في سوريا والعراق واليمن.
بدوره، فإنّ السني يعيش حالة تراجع، وظهر ذلك جلياً في خسارة المكتسبات الداخلية التي أخذها بعد « إتفاق الطائف» في الإنتخابات النيابية الأخيرة، كذلك، فإنه يخسر في المعركة الكبرى الدائرة في سوريا واليمن والعراق.
ويعاني الدرزي من التقهقر الديموغرافي في لبنان والمنطقة وسط الزحف السني والشيعي، في حين أنّ دورَه داخل التركيبة اللبنانية الى تراجع.
أمام هذه الوقائع، ترى الكنيسة أنّ من المبكر جدّاً طرح مسألة تغيير النظام، أو الذهاب الى طروحات مثل الفيدرالية، في حين أنّ اللامركزية الموسعة هي مطلب جميع اللبنانيين، وللسني والشيعي إبن عكار وبعلبك – الهرمل قبل المسيحي.
ووسط كل ما يحصل في المنطقة، تصرّ الكنيسة على ضرورة أن تكون هناك خطة مسيحية للتحرّك، ولا يقف الأمر عند التمنيات، وهذا الأمر يركّز عليه البطريرك في الإجتماعات، لأنه يعتبر أنّ الجميع مسؤول عن إنقاذ الوضع.
ستكون حقيبة الجمعة حافلة بالمواضيع والملفات الشائكة، لكنّ الحديث عن أعراف جديدة هو مسؤولية جماعية، فبعض التصرفات والحروب في عامي 1989 و1990 خسّرت المسيحيين الحرب وذهبوا الى «الطائف» مكسورين وخسروا أيضاً القسم الأكبر من صلاحيات رئيس الجمهوريّة، ويخشى البعض أن يكرّر الفريقُ نفسُه مثل تصرفات كهذه، ولو بالسياسة، فيضيّع المسيحيون فرصة إعادة الشراكة ويذهبون الى المثالثة بدل المناصفة.