Site icon IMLebanon

رسالة أميركية حازمة من دير الزور إلى ثلاثي آستانة

 

أكدت الولايات المتحدة مجدداً الخطوط الحمر في سورية. التأكيد يثبت جدية سياستها في هذا البلد. لم يعد هناك مجال للتشكيك. تصدي قواتها وطيرانها لقوات شعبية تابعة للنظام في دمشق قبل أيام رسالة لا لبس فيها، إلى جميع المنخرطين في الصراع على بلاد الشام. رسالة إلى النظام وإلى حليفيه الروسي والإيراني، وإلى تركيا أيضاً. عنوانها لا يحتاج إلى اجتهاد: لا يمكن تغيير قواعد الاشتباك. وممنوع التعرض لـ «قوات سورية الديموقراطية» التي تدعمها واشنطن شرق البلاد وشمالها. لم تكن العملية الأولى من نوعها. سبق أن ضربت قوات للتحالف الدولي خريف عام 2016 قوات للجيش السوري وكبدته خسائر فادحة.

لكن واشنطن اعترفت يومذاك بأن الضربة كانت من «خطأ». لكن الطائرات الأميركية أغارت الربيع الماضي على قوات موالية للنظام السوري حاولت الاقتراب من قاعدة التنف. ثم أسقطت بعد نحو شهر طائرة للقوات النظامية عقاباً لها على قصف قوات كردية في محافظة الرقة. تمثل الضربة الأخيرة إصراراً أميركياً على حماية منطقة تشكل نحو أربعين في المئة من بلاد الشام. هذه «حصتها» التي لا يمكن دمشق أن تقترب منها. ولا يمكن طهران، مهما توعدت بتحرير كل سورية، أن تتقدم إليها. ولا يمكن موسكو مهما أقلقتها سياسة إدارة الرئيس دونالد ترامب أن تتعرض لما تعتبره هذه الإدارة المصالح الاستراتيجية الأميركية. ولا تمكن أنقرة أن توجه عملية «غصن الزيتون»، مهما أعلت الصوت متوعدة بالتقدم إلى مواقع الكرد في منبج وغيرها من مناطق تحت «إدارتهم الذاتية» شرق الفرات.

روسيا دانت العملية الأميركية الأخيرة في دير الزور. وانتقدت تحركات القوات الحكومية السورية لعدم تنسيقها عمليات الاستطلاع التي تقوم بها «القوات الشعبية» التي منيت بأكثر من مئة قتيل. فهي تدرك جيداً بعد تجربة مؤتمر سوتشي، وبعد قيام «مجموعة الخمس» ونشاط فرنسا المتجدد في المنطقة، أنها لا تستطيع تجاهل أو تغيير آليات الصراعات الدولية. فهي ليست وحدها في الساحة. لا يمكنها تجاهل جميع القوى الدولية والإقليمية والمحلية المتناحرة في الميدان السوري. وعليها احترام المظلة الأميركية شمال شرقي بلاد الشام. أما اتهامها واشنطن بأنها تريد السيطرة على أهم حقول النفط في منطقة دير الزور فأمر مبالغ فيه. السياسة الجديدة لواشنطن في سورية والمنطقة عموماً طوت سياسة الإدارة السابقة لباراك أوباما. الولايات المتحدة حاضرة بقوة الآن في بلاد الشام، وحاضرة أيضاً في العراق. ويمكن القول أن قواعدها العسكرية في الإقليم كله تشكل طوقاً محكماً على الحضور الروسي الميداني المستجد على الساحل السوري. فهي موجودة أيضاً في المنطقة الجنوبية المحاذية لحدود الأردن. هذا من دون الحديث عن سياسة حليفتها إسرائيل التي باتت غاراتها شبه روتينية على مواقع للنظام في دمشق وحلفائه من ميليشيات ترعاها إيران. من هنا، أهمية الضربة الأميركية في منطقة دير الزور. فهذه تشكل موقعاً استراتيجياً على الحدود مع العراق. ويمكن الانطلاق منه لاحقاً لقطع الطريق التي تستميت طهران للحفاظ عليها سالكة إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.

الوجود العسكري الروسي في سورية ليس مهدداً. لكنه بالتأكيد يواجه مرحلة جديدة من التحديات. ستجد موسكو نفسها قريباً مجبرة على ضخ مزيد من العديد والعتاد إلى هذا البلد، بعد إعلان الرئيس فلاديمير بوتين من قاعدة حميميم «النصر» على الإرهاب وبدء سحب بعض القوات من سورية. سيشكل هذا الوضع استنزافاً لمقدراتها وقواتها. ولا يقتصر هذا التحدي على الشق العسكري، بل يتعداه إلى الشق السياسي. سلمت الديبلوماسية الروسية في سوتشي بأنها لا يمكنها المضي وحيدة في رسم معالم التسوية. فهناك «مجموعة الخمسة»، وهناك الصوت الفرنسي والأوروبي عموماً الباحث عن دور وإن متأخراً. وهناك تحرك الأمم المتحدة لإدانة نظام الرئيس بشار الأسد باستخدام أسلحة كيماوية، وهذه كرة نار تكبر يومياً وقد تنفجر بوجه دمشق وحليفتيها عاجلاً لا آجلاً. وأخطر من هذه المستجدات، تواجه روسيا تهديداً لانفراط عقد تفاهمها مع كل من إيران وتركيا، خصوصاً بعد التباين الكبير بين شريكتيها في آستانة. يمكنها أن توهم الولايات المتحدة والدول التي تصر على دور المنظمة الدولية في إيجاد التسوية سياسية، بأنها تساهم في تعبيد الطريق إلى ذلك عبر «مؤتمر الحوار» وغيره. لكنها تعلم جيداً أن الرئيس الأسد والمجموعة المحيطة لا يعنيها أي حل. وهو يلقى دعماً واضحاً منها ومن إيران.

لا يعني ذلك أن الكرملين لا يتمسك بقوة بالقاعدتين في حميميم وطرطوس بعدما سوق أنهما خط دفاع متقدم عن روسيا ودورها الدولي المتصاعد. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية قبل أيام أنها تعمل على تعزيز قواعد انتشار قواتها في سورية، بعد إسقاط إحدى طائراتها الحربية وبعد تعرض قاعدتيها لهجمات صاروخية وهجمات بطائرات «درون». ولا تخفي موسكو معارضتها الخطة الإصلاحية التي تعمل عليها الدول الخمس (أميركا وفرنسا وبريطانيا والسعودية والإمارات)، لأنها تخشى أن ينتهي تقليص صلاحيات الرئيس وتغيير تركيبة الحكومة ومجلس النواب إلى إعادة النظر في الاتفاق الذي منحت بموجبه دمشق القاعدتين شرعية البقاء لخمسين سنة قابلة للتجديد كل 25 سنة. صحيح أنها «أهدت» مرغمة إلى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا العمل مع «لجنة الدستور» على إعداد دستور بإشراف أممي، لكن الصحيح أيضاً أن لا ضمان سيرغم النظام في الجولات المقبلة على تقديم التنازلات المطلوبة، ما دام أنه «حرف» البيان النهائي لمؤتمر الحوار، وقدمه وطهران كما يريدان رؤيته وليس على حقيقته.

روسيا تدرك جيداً فحوى الرسالة الأميركية الأخيرة من دير الزور، تدرك قواعد «الحرب الباردة». ومثلها أيضاً دمشق وطهران.

صحيح أن إيران دانت الضربة الأميركية الأخيرة، وأن الرئيس حسن روحاني هاجم الوجود الأميركي في بلاد الشام، متهماً واشنطن بالسعي إلى تقسيم هذا البلد. لكن الصحيح أيضاً أنه واقعي وبرغماتي أمام «العواصف» التي تهب عليه من الداخل والخارج. ومثلما دعا إلى سماع صوت شعبه الناقم، أبدى استعداداً للحوار من أجل حل مشكلات المنطقة، «خصوصاً مع الدول الإقليمية»، ومع «بلدان ليست من المنطقة»، في إشارة إلى الولايات المتحدة. ورأى أن حسن تنفيذ الاتفاق النووي يفتح الطريق للبحث في ما تثيره إدارة ترامب وحكومات أوروبية في شأن دور بلاده في المنطقة وقضايا أخرى. يبقى أن يدرك الرئيس رجب طيب أردوغان الذي تستقبل بلاده هذا الأسبوع وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، فحوى الرسائل الأميركية. وأن يخفض من سقف تهديداته للكرد والنظر في أبعاد خصومته المتمادية مع واشنطن. فالجميع يعرف جيداً أن توغل قواته في سورية يظل رهن جملة من التفاهمات الضرورية، أو رهن أكثر من ضوء أخضر. فهو إن لم يعر اهتماماً كبيراً لاعتراض إيران التي ربما كانت ترغب في مغازلة الكرد، لا يمكنه تجاهل موقف أميركا وروسيا. فالأخيرة أمهلته ولا تزال تمهله من أجل نشر قواته في منطقة إدلب وإنهاء وجود الفصائل المتشددة وعلى رأسها «جبهة النصرة»، وقد لا تسمح له بتوسيع حربه على الكرد.

مهمة المسؤولين الأميركيين في أنقرة يجب ألا تكون صعبة. هناك مصلحة مشتركة في التهدئة. نجاح السياسة الأميركية في سورية تفيد منه تركيا أيضاً. لذلك، إن مواصلة قوات أردوغان حملتها على الكرد في مناطق سيطرتهم لا يخدم هذه المصلحة مستقبلاً. لا حكمة في دفع «قوات سورية الديموقراطية» و «حزب الاتحاد الديموقراطي» إلى تجديد الصلات بالنظام السوري. لن يتردد الحزب في تسليم مواقعه إلى قوات النظام وحليفيه الإيراني والروسي إذا تعاظم الضغط العسكري على هذه «القوات». ويعني ذلك ببساطة تعزيز هيمنة الجمهورية الإسلامية في بلاد الشام على حساب مصالح تركيا وفضائها الأمني. لذلك، من مصلحة واشنطن وأنقرة إيجاد تفاهم يقضي بوقف هذه الحملة على عفرين عند حدود معينة. ومن مسؤولية تيلرسون وماكماستر طمأنة الحليف التركي التقليدي والعضو الأساسي في حلف شمال الأطلسي إلى حرص بلادهما على عدم السماح بهز وحدة الأراضي السورية، وعدم السماح للكرد بإعلان كيان مستقل يشكل قاعدة لحزب العمال الكردستاني. وإذا كان لسياسة أميركا هدف رئيسي هو مواجهة تمدد إيران انطلاقاً من سورية، فإن تحقيق هذا الهدف يخدم المصالح الاستراتيجية لتركيا التي وجدت نفسها قبل سنتين مرغمة على الانجرار نحو موسكو وطهران بعيداً من علاقاتها التاريخية مع دول «الناتو». وليس من مصلحتها اليوم إعادة تأهيل النظام وتحويل بلاد الشام قاعدة للثنائي الإيراني والروسي. هدفها كما هو هدف حلفائها التقليديين إزاحة الرئيس الأسد والحفاظ على مصالحهم في بلاد الشام فلا تسقط كلها بيد إيران وروسيا خصميها التاريخيين.