IMLebanon

مناقشة صريحة لقسم من حديث السيد حسن نصر الله الأخير

بدايةً، عليّ الواجب بأن أقرّ وأنوّه بأنّ السيّد حسن نصر الله عنده «كاريسما» أيْ جاذبية طبيعية قوية في شخصه للشعب فيما هو يخاطبه، قلّ نظيرها، وأنّ الشعب، إذ يستهوي سماعه، ينجرُّ إليه باكثريته دون عناء او تفكير، وربما أحياناً، أكون انا بنفسي من تلك الأكثرية، ما لم أعُد بعد وقتٍ إلى رشدي والوقائع التاريخية الثابتة والمنطق السليم والصحيح.

وبعد، إذ أصغيتُ إلى حديث السيد حسن الأخير بكامله، كما بُثّ في 16 شباط الماضي على شاشة تلفزيون»المنار»، أضرب صفحاً عن كلّ ما جاء فيه ولا أريد أن أتوقف عنده، باستثناء فقط قوله إنّ لبنان ليس جزيرةً وحيدةً في البحر، بل إنه جزءٌ من المنطقة الكبيرة المحيطة به، الكائنة في الشرق الاوسط ويتأثّر تالياً حتماً مما يطرأ على تلك المنطقة، سلباً او إيجاباً، ولا يسعه تبعاً، أن ينأى بنفسه عنها بعدما أصبحت «داعش» وأخواتها الإرهابيات على أبوابه،

إن لم تكن موجودة فعلاً في داخله، وإنّ ايطاليا عل سبيل المثل، التي تبعد مسافة 352 كيلو متراً عن ليبيا، وهي مسافة غير قليلة، مع ذلك راحت تفكّر الآن بإرسال قوى عسكرية إليها للمساهمة بمحاربة «داعش» التي ذبحت هنالك واحداً وعشرين قبطياً مسيحياً بريئاً، فكم بالأحرى والحال هذه، إن على لبنان أن يفعل ما يفعله حزب الله، فيقاتل «داعش» وأخواتها في عقر دارها في العراق وبلاد الشام، وينسحب ذلك أيضاً على السعودية نفسها لانّ مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة يطالهما التهديد، ما يجعل محاربة «داعش» وأخواتها واجباً وطنياً واسلامياً على الامّة جمعاء.

وعليه، أردُّ على هذا القول بصراحة وتجرَّد ومحبةٍ وموضوعيةٍ متوخياً الحقيقة حتى ولو كانت أحياناً أليمة:

1- نعم وصحيح، لم يعد مبدئياً في العالم منذ القرن العشرين من دولة تستطيع أن تنأى بنفسها عن محيطها باستثناء دول صغيرة قليلة، وذلك نظراً لخصوصيتها وتعشّقها للحرية، ولا سيما منها سويسرا في الغرب ولبنان في الشرق.

2- فسويسرا، كان أهاليها ينشدون الحرية منذ قديم الزمان، ولكنهم تعرّضوا للأحتلال مراراً أو للمضايقات من الدول القوية التي تحيط بهم، فرنسا والمانيا والنمسا وايطاليا، ولكنّ سويسرا رسَّخت بالنتيجة حيادها التام في الحربين العالميتين الكُبريين الطاحنتين اللّتين نشبتا بين جيرانها سنة 1914 إلى 1918 وسنة 1939 إلى 1945.

3- وسويسرا رغم أنها كانت ملجأً للمضطهدين، لديها الآن جيش قوي وخدمة عسكرية إلزامية وطيران فعَال، وهي الدولة الوحيدة التي لديها ايضاً ملاجئ ضدّ القنابل النووية تأوي تسعين بالمئة من سكانها.

4- وأهالي سويسرا هم بنسبة أربعين بالمئة من أصل ألماني ويتكلمون اللغة الالمانية، وبنسبة خمسة وعشرين بالمئة آخرين من أصل فرنسي ويتكلمون اللغة الفرنسية، وخمسة عشر بالمئة من اصل ايطالي ويتكلمون اللغة الإيطالية، والباقون هم من الاقليات الصغيرة المختلفة، الرومانية القديمة، وفيها أيضاً مسلمون قلائل وهي تُجري بين فترة وأخرى أستفتاءً شعبياً لمعرفة النسبة المسموح ضمنها للأجانب الإقامة فيها، كما أنّ هنالك صعوبة كبيرة لمنحهم الجنسية السويسرية.

والجدير ذكره أنّ الفرنسيين البروتستنتيين هربوا من فرنسا ولجأوا إلى سويسرا على أثر المذابح الفظيعة التي تعرّضوا لها من الفرنسيين الكاثولكيين سنة 1572 بمناسبة عيد saint Barthélémy إذ راح منهم خمسون الف ضحية.

5- وأهالي سويسرا، أيّاً كان أصلهم أو دينهم أو مذهبهم، لاحِمون كليّاً بعضهم على بعض ولا يفكر أحد منهم بالانضمام الى أيّ دولة من الدول المجاورة.

6- ولعلّ هذا التلاحم المتين هو السبب الحقيقي الذي يحول دون امكانية «داعش» واخواتها القيام بأعمال ارهابية في سويسرا في حين أنّ تلك الأعمال حصلت كثيراً وعلى نطاق واسع في أمريكا وروسيا ودول اوروبا الكبرى وفي الدول الاسلامية نفسها على رغم تبرُّؤ الحكام والسياسيين الظاهر في الدول الإسلامية من تلك الأعمال، وشجبهم إياها واستنكارها وإدانتها

7- اما لبنان الشبيه بسويسرا إلى حدٍّ كبير من حيث تعشُّقه للحرية وتركيبته الواقعية الفريدة ونشوئه ملجأً للمضطَّهدين، فهو يختلف كثيراً عن باقي الدول العربية الإسلامية المحيطة به والطامعة فيه، وهو مديون أساساً في وجوده لأقليات لجأت اليه تباعاً، وهم الموارنة والدروز والشيعة، ولاحقاً الارمن وإن بنسبةٍ أقل.

8- إلّا أنّ لبنان، إذ كان قد أستقل سنة 1943 بموافقة جميع طوائفه ومذاهبه على اساس ما سُمِيّ الميثاق الوطني غير المكتوب، القائل إنّ المسيحيين يمتنعون عن التطلّع الى فرنسا و الغرب، وإنّ المسلمين يمتنعون عن التطلّع الى الشرق وإنَّ لبنان يلتزم الحياد التام، فإنّ الرئيس اللبناني المسيحي أشترك سنة 1948 بالهجوم على اسرائيل مع الدول العربية بغية رميها في البحر خارقاً بذلك، الحياد المشار اليه وسمح بإدخال مئة وخمسين ألف فلسطيني الى لبنان،

صاروا فيما بعد مع أولادهم و أحفادهم خمسمئة ألف، وتسلحوا وكانوا السبب المباشر لإندلاع الحرب الاهلية فيه سنة 1975 والتي لم تنتهِ ذيولها بعد، ويقتضي الآن التنويه بشدّة أنّ الرئيس بشارة الخوري لم يفعل ذلك إلاّ لأنه كان واقعاً تحت ضغط الرأي العام المسلم اللبناني والعربي، الشديد والهائل، والذي كان يتعاطف مع العرب والفلسطينين كما تقتضي الإشارة الى أنّ عرباً كثر مٌنحوُا على زمن الرئيس الهراوي الجنسية اللبنانية خلافاً للأصول وتحت الضغط أيضاً.

9- وإذ لم تعد فلسطين دولة يهودية بعد المسيح، بل أصبحت ولاية تابعة للإمبراطورية الرومانية ومن بعد للامبراطورية البيزنطية، وصارت ولاية تابعة للدولة الاسلامية بدءاً من القرن السابع عندما وقع الفتح الاسلامي بسرعة وبقوة السيف، وتقلَّص الوجود المسيحي على الأثر رغم انه كان منتشراً في المنطقة على نطاق واسع، لأنّ «داعش» وغيرها كانوا موجودين في العالم الاسلامي منذ القدم وما يزالون، ثم استولت السلطنة العثمانية على فلسطين سنة 1516 وجعلتها ولاية تابعة لممتلكاتها وحكَمتها نحو أربعمئة سنة،

ومن بعد انتزعتها بريطانيا العظمى منها سنة 1918 إثر انتصارها عليها في الحرب العالمية الأولى، فجعلتها محميّة تابعة لها، ثم قسمت أرضها بين العرب واليهود سنة 1948 بموافقة الامم المتحدة، وضمّ الأردن اليه الضفة الغربية منها فوراً، كما ضمّت أيضاً مصر اليها قطاع غزة، عندئذ وفوراً، هجمت الدول العربية على اليهود المتواجدين في القسم من فلسطين الذي آل اليهم بغية رميهم في البحر كما سبق بيانه، وهذه الدول هي، العراق، رغم أنه لم يكن لها حدود مع فلسطين، وسوريا وأيضاً كل من مصر والاردن التي، ضمّ أحدهما اليه قطاع غزة وضمّ ثانيهما اليه الضفة الغربية وشارك بهذا الهجوم لبنان كما سبق بيانه.

10- الاّ أنّ هذا الهجوم باء بالفشل واضطُرت الدول العربية لأن توقِّع الهدنة في قبرص سنة 1949 مع من مثّل اسرائيل، غير أنّ بعض الدول العربية بقي يستفزّ اسرائيل التي كانت ترد بما هو أقسى وأعنف، إلى أن وقّعت مصر والأردن اخيراً صلحاً معها ولكن لايزال الشعب العربي الموجود في الدول التي لم توقع صلحاً يردّد تحت تأثير غسل دماغه أنّ عدوه الوحيد هو فقط اسرائيل، في حين أنّ عدو الانسان يجب أن يكون البادئ في الاعتداء عليه، أكان قريباً أم بعيداً.

وأشير هنا تطبيقاً للقول المذكور أعلاه ، الى أنّ كثيرين من أخواتنا الشيعة، إذ دخل الجيش الاسرائيلي الى لبنان سنة 1982 من بوابة الجنوب ولم يكن بعد حزب الله قد تسلّح كما هو الآن، راحوا يستقبلونه بالزغاريد ورشّ الورد عليه والأرُزّ، لأنهم رأوا فيه خلاصاً لهم من سيطرة واعتداءات الفلسطينين عليهم وعلى أرزاقهم.

11- والآن، إذ كثرت الأعمال الارهابية الفظيعة التي ترتكبها «داعش» وأخواتها، غرباً وشرقاً، والتي يشجبها طبعاً السياسيون المسلمون عموماً، فإنه من الملاحَظ أنه لم تحصل مع ذلك في أيّ بلد اسلاميّ مظاهرة شعبية عفوية واحدة تضمّ الألوف استنكاراً لهذه الاعمال.

وخلاصة الكلام:

لما كان لبنان، قد أصبحت اوضاعه اليوم مختلفة كثيراً عمّا كانت عليه سنة 1943 لدى موافقة جميع اهاليه على الميثاق الوطني والتزامهم بالحياد التام بسبب خصوصيته، ولما كان هذا الميثاق قد خُرِقَ واقعياً سنة 1948، كما سبق بيانه، إذ انجرَّ لبنان إلى الحرب ضد إسرائيل بمشاركة بعض الدول العربية، بعد تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وذلك تحت ضغط الرأي العام الاسلامي اللبناني والعربي الشديد، دون أن تكون اسرائيل البادئة بالاعتداء على لبنان، مع الملاحظة أنّ فلسطين لم تعد دولة مستقلة بعد المسيح وقد أصبحت ولاية تابعة للدولة الاسلامية ومن ثمَّ للسلطنة العثمانية، ومن بعد، انتزعتها منها بريطانيا العظمى وجعلتها محميَّةً لها. كما صار بيانه قبلاً.

ولما كان اهالي لبنان قد اصبحوا يردِّدون دائماً تحت تأثير غسل دماغهم أن ليس لهم عدوّ سوى اسرائيل، في حين أنّ عدوّ الانسان هو مَن يعتدي عليه فعلاً، أكان قريباً أو بعيداً، علماً أنّ مصر والأردن قد وقّّعا بالنتيجة صلحاً وسلاماً مع اسرائيل واعترافاً بها وأن كثراً من اخواننا الشيعة قد استقبلوا الجيش الاسرائيلي سنة 1982 لدى دخوله الى لبنان من بوابة الجنوب بالزغاريد والورد والأرُزَّ لأنهم رأوا فيه خلاصاً لهم من اعتداءات الفلسطينيين عليهم ولم يكن حزب الله اذ ذاك مسلحاً تسليحه الكامل كما هو الآن.

ولكن الآن، بعد مرور عقود وعقود على لبنان من الحرب الاهلية التي اندلعت فيه وعلى عدم استقراره المجتمعي، دون أن تلحم الفئات التي يتكوّن منها، بعضها على بعض، بات واضحاً أنَّ هنالك محاولة جدّية لدى مرجعيات مختلفة نافذة، داخلية وإقليمية تعمل رويداً رويداً على إنهاء الكيان اللبناني.

ولما كان حزب الله قد أصبح الآن أقوى من الدولة ولايبدو انه يريد ان يكون تحت جناحها، لذلك، فإنّ الحلّ لمشكلة لبنان التي ما زالت قائمة فيه منذ زمن طويل جداً، يكمن في أن يستقلّ حزب الله عن لبنان أو أن ينضم، وحلفاؤه والأحزاب الداعمة له كحزب البعث العربي والحزب السوري القومي الأجتماعي وغيرهم أكانوا مسيحيين أو من أهل السنة، الى الدولة التي يريدون، على أن يبقى في لبنان من يؤمن بقيمِه السامية وديمومته وحياده التام مثل سويسرا، وبحريته وسيادته واستقلاله وديمقراطيته، لأنّ الحقيقة وحدها تنجّي ولا تُبنَى الاوطان على القهر والقوة أو الخداع أو المجاملة ولا على التصاريح السياسية المنمّقة والمخالفة للواقع المعيوش، بل تُبنى على التاريخ الأكيد والواقع السوسيولوجي الحيّ والصحيح.