الراجح أنّ سمير جعجع قرأ كتباً في سجنه. هو تحدّث عن هذا. شيء ما تغيّر في لغة الرجل (لا خطابه). مذ خرج وهو يستخدم ألفاظاً لم يعهدها لسانه مِن قبل. الراجح، مرّة أخرى، أنّه قرأ شيئاً في «فلسفة التاريخ». لا لفظة تنافس «التاريخ» تكراراً في كلامه. آخرها (ربّما) كان قبل نحو عشرة أيّام: «لا يُفكّر أحد أن يَتحايل على التاريخ.
فالمعادلة التاريخيّة، في كلّ الأوقات في لبنان، كانت شعب، دولة، جيش». إنّه يردّ، بوضوح، على معادلة حزب الله: جيش، شعب، مقاومة. يوافق جعجع على الشعب، وكذا على الجيش (هل كان كذلك في كلّ الأوقات!)… معترضاً (فقط) على العنصر الأخير مِن المعادلة: المقاومة. يضع مكانها: الدولة. فاته أن يقرأ، في سجنه، مقدّمات أوليّة في العلوم السياسيّة. إن كان قرأ، وهذا وارد، فإنّه حتماً لم يفهم. ألف باء مادّة «القانون الدستوري» كانت ستكفيه ليُدرك علميّاً، وهو «الحكيم» طبعاً، تعريف الدولة. التعريف الأكثر شهرة. التعريف الذي يأخذ به الدستور اللبناني: شعب وأقليم وحكومة (سُلطة). هذه هي مكوّنات الدولة. يفترض جعجع، بحسب معادلته، أن هناك دولة، ثم هناك شعب وجيش! لم يخبره مستشاروه أنّ الجيش هو إحدى المؤسسات الدولتيّة، والتي تخضع، تلقائيّاً، لسُلطة الحكومة، وأن الشعب هو، أساساً، أحد المكوّنات الثلاثة لمفهوم الدولة (بالمعنى البسيط).
هكذا، وقبل أيّ نقاش سياسي، تسقط معادلة جعجع نظريّاً. إنّها إحدى الارتجاليّات البلهاء في الخطاب السياسي اللبناني. للأمانة، ليس جعجع وحده مَن يَخلط في المفاهيم السياسيّة الأوليّة لبنانيّاً. الخلط بين مفهومي السُلطة والدولة، مثلاً، نجده شائعاً عند أكثريّة السياسيين في لبنان داخل كلّ القوى. إنّما، وللأمانة أيضاً، يُفهم أن يحصل هذا في الإطلالات التلفزيونيّة اليوميّة، وحتّى في البيانات العابرة، لكن أن يكون عنواناً سياسيّاً عاماً لفريق سياسي، أو بمثابة الركيزة الاستراتيجيّة للمواجهة، فهذه واحدة مِن مظاهر زمن الرداءة الذي لا قاع له. مِن حقّ حزب الله، اليوم، أن يسخر مِن جعجع، وأن يقول له: أنتَ وفريقك السياسي صدّعتم رؤوسنا بالحديث عن الدولة، فيما أنت، يا «حكيم» طبعاً، لا تفهم حتى أكاديميّاً معنى الدولة. معادلة حزب الله (جيش، شعب، مقاومة) تبدو أكثر انسجاماً مع مفهوم الدولة، أقلّه نظريّاً، بغض النظر إن اتفقت مع مضمونها أو عارضتها. لم يكن أحد لينتبه إلى هذا التفصيل قبل اجتراح جعجع لمعادلته. مرّة أخرى يزيد جعجع حزب الله فيما كان يقصد أن يُنقص مِنه. الضدّ يُظهِرُ حُسنَه الضدّ.
التاريخ لا يعمل في صالح جعجع. ليس أوّل مَن راهن على فهمٍ مُعيّن للتاريخ وخُذِل. قبل أكثر مِن عشر سنوات، وضمن مؤتمر صحافي عقده للردّ على السيّد حسن نصر الله، قال «إنّ حزب الله يَسير عكس التاريخ وهو لن يستطيع الاستمرار في ذلك… إستراتيجيّة حزب الله لن يُكتَب لها النجاح». عقد مِن الزمن مضى على هذا التصريح وحزب الله يزداد تاريخاً على تاريخ. لو سألنا جعجع عن هذا اليوم فإنّه لن يُعدم الإجابة. دائماً ثمّة إجابة. سيقول مثلاً: التاريخ أمامنا والرهان ما زال قائماً. هذه أسيّة من فجعهم التاريخ، ثمّ تمسكوا بما فجعهم، على مرّ التاريخ. هذه تُشبه أن يجزم أحدهم بموت شاب عشريني، مثلاً، ذات يوم. يأتيه بعد خمسين سنة ويقول له: انظر، لم أمت. يُجيبه: لكنّك ستموت لاحقاً، هذا هو منطق التاريخ، وسترى. بالتأكيد سيموت… ضحكاً! على ما يبدو هكذا يفهم جعجع «حركة التاريخ». ذات مرّة قال في مقابلة مع صحيفة خليجيّة، في سياق حديثه عن الأزمة في سوريا، إنّ «معركة تغيير النظام حُسِمت وهناك حتميّات في التاريخ». حسناً، إن سقط النظام في سوريا بعد نصف قرن، مثلاً، فسيخرج جعجع، إن كان لا يزال حيّاً، ليقول: ألم أقل لكم إنّه سيسقط! في الواقع عندما يتحدّث جعجع عن التاريخ فإنّه يضع الباحث في حيرة. ما هي مرجعيّته في «فلسفة التاريخ» هذه؟ يتحدّث عن «حتميّات». أيُعقل أن تكون الماركسيّة؟ هذا جعجع يا عمّي! بالتأكيد لا. هل تأثّر بفوكوياما ونهاية التاريخ، معتقداً أنّه ينتمي إلى «الإنسان الأخير»؟ هل يُتابع التحديثات التي طرأت وتطرأ على تلك النظريّة، وعن «النعف» الحاصل حولها، هناك في بلاد المنشأ؟ جعجع شخص مؤمن. هذا ما يقوله. هل تأثّر بفلسفة القديس أوغسطين للتاريخ ومدوّنته «مدينة الله»؟ هو قال إنّه قرأ الكثير مِن الكتب اللاهوتيّة في سجنه. إن كان كذلك فالخلاص ليس في هذا العالم. فليبحث عن «الرذيلة» داخله وليتطهّر مِنها شرطاً للنجاة في عالمنا. قبائل القوط دوماً على أبواب الإمبراطوريّة. أمّا التاريخ، وعلى مدى التاريخ… فملجأ المهزوم.