Site icon IMLebanon

تاريخٌ من «الأخطاء»

في تموز من عام 1988، قامت بارجة أميركية تُبحر في الخليج بإطلاق صاروخٍ على طائرةٍ مدنية كانت في رحلة بين طهران ودبي، وقتلت 290 راكباً على متنها.

اعتبرت ادارة ريغان أنّ ما حدث كان مجرّد «خطأ»، وأن طاقم السفينة الحربية اعتبر أن الطائرة الايرانية المدنيّة مقاتلة أف ــــ 14 تحلّق في اتجاههم، وأنّ القبطان تصرّف بما يحقّ له دفاعاً عن نفسه وعن سفينته. ثمّ انتقل البيت الأبيض، فوراً، الى طور الهجوم واتّهام ايران باستغلال «الجانب الانساني» من الحادث لمآرب سياسية. طمس أكثر الإعلام الغربي القصّة، واعتمد الرواية الأميركية، ولم يكترث أحد فعلياً، خارج ايران، للضحايا الايرانيين.

غير أنّ الرّواية الأميركية كانت ملأى بالثغرات، بشكلٍ يُصعّب على أيّ عقلٍ نقديّ تصديقها. لاحظ العديدون، مثلاً، أنّ الطّائرة الايرانية كانت تقوم برحلة مجدوَلة ووفق مسارٍ معروف، وأنّ جهاز الاستجواب الالكتروني فيها كان يبثّ على موجةٍ مدنية، وأنّ السفينة الأميركية كانت داخل المياه الاقليمية الايرانية، وأنّه من الصّعب تصديق أنّ راداراً حديثاً لا يقدر على التفريق بين طائرةٍ مقاتلةٍ صغيرة وبين «ايرباص» ضخمة، الخ… ثمّ تبيّن بعد سنوات قليلة أن القبطان الأميركي، واسمه ويليام روجرز، كان متطرّفا مهووساً، يتكلّم باستمرار عن ضرورة ضرب الايرانيين وإخضاعهم، واستفزازهم لدخول الحرب مع أميركا تحت أية حجة؛ وأنّه كان قد افتعل اشتباكاً مع زوارق ايرانية، مباشرةً قبل اسقاط الرحلة 655، ثمّ لاحقها الى داخل المياه الإقليمية. كما كشف تحقيق لمجلّة «نيوزويك» أنّ القبطان لم يتصرّف من تلقاء نفسه، أو مدفوعاً بتهوّر، بل بتوجيه من جهاتٍ عليا في الحكومة قامت بالدفاع عنه وتغطية ما جرى.

المهمّ هنا هو أنّ هذه «الرسالة على شكل خطأ» لم تأتِ من فراغ، بل في سياقٍ تصعيديّ يتعلّق بالحرب العراقية ــــ الايرانية ابتدأ في نيسان من العام نفسه بعملية «فرس النبي»، حيث ضربت أميركا البحرية الايرانية في الخليج، واستكمله تهديد مباشر من صدّام حسين لطهران بأنّه سيضرب المدن الايرانية بالأسلحة الكيميائية إن لم تقبل بوقف إطلاق النار، وأنّ أحداً في العالم لن يتدخّل لمنعه. قام صدّام بتنفيذ تهديده بالفعل، وضرب عشرات البلدات والمدن الايرانية بالغاز السام والسيانيد، فقُتل في مدينة أُشناوية، مثلاً، أكثر من ألفي مدني ــــ ولم تحصل، كما توقّع النظام العراقي تماماً، أي ردة فعلٍ واحتجاج. كان مجموع هذه «الرسائل» هو ما دفع القيادة الايرانية، بعد أسبوعين من اسقاط الطائرة المدنية، الى القبول بوقفٍ لإطلاق النّار. الى اليوم، لا تعترف الحكومة الأميركية بأية مسؤولية عن مقتل المدنيين الايرانيين (ناهيك عن دعمها لصدام حسين)، وقد تقاعد ويليام روجرز في سلامٍ وسط تكريمٍ وحفاوة، إذ قلّدته المؤسسة العسكرية وسام «فيلق الاستحقاق»، وهو أحد أرفع الأوسمة الشرفية التي يمكن أن ينالها ضابط أميركي.

دير الزور

من الممكن لنا أن نصدّق أنّ الغارات الأميركية كانت «خطأً»، تسرّب عبر عملية التصديق على ضربات «التحالف» ــــ الشهيرة بتعقيدها ــــ وأن طائرتين قد ضربتا الموقع بقنابل ثقيلة، ثمّ قامت مقاتلتان من طراز اي ــــ 10، تطيران على ارتفاعات منخفضة، بالإغارة على سواتر الجيش السوري بالرشاشات، من دون أن يميّز أحدٌ ما يجري. ومن الممكن أن نصدّق ايضاً أنّ الكلام عن تخادمٍ بين اميركا و»داعش» هو أوهام ونظريات مؤامرة. ولكنّ «الخطأ» الذي وقع في دير الزور يعرفه العراقيون جيّداً، حيث تغير الطائرات الأميركية دوماً على وحدات معينة من «الحشد الشعبي»، ودائماً خلال لحظات سياسية وميدانية ذات مغزى. ولو تمكّنا من تجاهل كلّ هذا، فهل نتجاهل التقرير الشهير لمخابرات الدفاع الأميركية، الذي يقول صراحةً، ومن دون مواربة، إن «خلق امارة سلفية في شرق سوريا» هو «بالضبط ما تريده القوى الداعمة للمعارضة، من أجل عزل النّظام»؟ (اللطيف هنا هو أنّ العديد من المثقفين العرب يخرجون بكلّ اشكال النظريات السياسية و»السوسيولوجية»، التي تربط صعود القوى السلفية المسلّحة بأفعال النّظام، ولا أحد يشغل نفسه بالسببيّة المباشرة الواضحة الوحيدة في الموضوع: القوى الغربية التي أدخلت هؤلاء المقاتلين الى سوريا في الأساس، ودرّبتهم وسلّحتهم وموّلتهم، وجعلت لهم جيوشأً أفلتتها في بلادنا).

هنا ايضاً، المهمّ هو السّياق. الشهداء السوريون الذين سقطوا في دير الزور، وبعضهم متطوعون محليون وبعضهم الآخر جاء من أقاصي سوريا، كانوا يخوضون «أوضح» معركةٍ في الحرب السورية. هؤلاء الجنود كانوا يحمون ما تبقّى من مدينةٍ كان يقطنها مئات الآلاف، وتحيط بأهلها من كلّ جانبٍ قوى تنظيم «داعش»، التي تشنّ عليهم الهجمات باستمرار، وتتوعّدهم بمصيرٍ رهيبٍ اذا ما سقطت الأحياء المُحاصرة. في دير الزور عشرات الآلاف من المدنيين الذين ما زالوا يذهبون الى أعمالهم ومدارسهم كلّ يوم، ولا شيء حولهم لمئات الكيلومترات الا أراضي «الخلافة» وعالمها الوحشي. حتى فترةٍ وجيزة، كانت دير الزور هي البقعة الوحيدة التي تتحدى «داعش» ودولته على طول الفرات، من الفلوجة الى الطبقة، وهي أصبحت ــــ منذ أكثر من عامٍ ــــ معزولةً بالكامل عن أي طريق امداد، ولا يمكن تزويد سكانها بالطعام والدواء الّا عبر الجو، وبواسطة مطارٍ لو سقط، سقطت المدينة والمحاصرون داخلها. الموقع العسكري السوري الذي ضربته الغارات الأميركية، وسمحت لقوات «داعش» باجتياحه، هو على جبلٍ يشرف على هذا المطار.

بدلاً من أن يتداعى «المراقبون الانسانيون» لإنقاذ دير الزور والمحاصرين فيها أو، أقلّه، مدّ المدنيين بالغذاء والمساعدات (وهذا متاحٌ وسهل)، تُركوا جميعاً لمصيرهم، وتمّ خلق ملحمةٍ إعلامية كونيّة حول بلدةٍ فارغة تقع على الحدود التركية، ليست لها قيمةٌ انسانية أو سياسية، اسمها عين العرب (كوباني). الـ»خطأ» الأميركي في دير الزور لم يبدأ البارحة، ومن الصعب أن نصدّق أنّه هفوةٌ و»تقصير».

خوست

القصّة، حقيقةً، تبدأ في أفغانستان، ومدينة خوست في شرق البلاد كانت، يومها، بمثابة دير زورٍ أفغانية. التشابه بين حربي سوريا وافغانستان مدهش: كانت المخابرات الباكستانية على الحدود تلعب دوراً مشابهاً لذلك الذي تلعبه تركيا والأردن واسرائيل اليوم، فتنسّق وتدرّب وتموّل وتوجّه من وراء الحدود، وخلفها جيشٌ من الداعمين يمتدّ من الصين الى مصر. على عكس السردية الرومانسية التي خرجت عن «الجهاد» في أفغانستان (والتي هي أصل شجرة البلاء، والتي ما زال العديد من الاسلاميين العرب يرددها بلا أدنى مراجعة حتى بعد أن خرجت الحقائق والكتب، وطردهم الأفغانيون طرداً، ولا يذكرهم اليوم أحدٌ بالخير هناك)، كان جزءٌ اساسيّ من جسد «الثورة» يتألّف من أمراء حرب وزعماء قبليين وتجار مخدرات (أو خليطٌ من هذه الصفات)، جنّدوا ــــ بفضل دفق المال الخارجي ــــ عدداً هائلاً من الشباب الريفيين، وخاضوا حرباً بلا هدفٍ واضح أو مشروعٍ سياسي.

تمّ حصار مدينة خوست، الملاصقة للحدود مع باكستان لأكثر من ثماني سنوات، بعد أن ضمن الباكستانيون قطع كل طرق المواصلات المؤدية اليها، والمدينة أصلاً في عمق منطقة قبلية بشتونية معادية للشيوعيين والسوفيات. بعد سنواتٍ من تزويد المدينة عبر الجوّ، قرّر السوفيات أخيراً سحب السكّان والحامية، وقد جرت يومها معركةٌ شهيرة على قمّة تلّةٍ تشرف على طريق الانسحاب: أُنزل على «التلّة 3234» وحدةٌ تتألف من 39 مظليا روسيا على متن حوامتين. أمّنت هذه القوة التلّة الاستراتيجية خلال عملية الانسحاب من خوست وقاومت، بمعاونة المدفعية السوفياتية، أكثر من عشر هجمات شنها مئات المقاتلين من جماعة حقّاني. وقد ظلّ خمسة مظليين من الوحدة على قيد الحياة وبلا إصاباتٍ حين تمّ إخلاؤهم.

سيُقال، بالطبع، إنّ القوات السوفياتية (التي دخلت البلاد، شكلاً على الأقل، بصورةٍ قانونية) كانت «احتلالاً أجنبياً» (لأن جماعة حقاني وحكمتيار وبن لادن «أصلاء» ومستقلّون)، وأن الحكومة الشيوعية كانت قمعية وفاسدة وتستحقّ الزوال ــــ لأنها تبغي تعليم النساء ومحاربة القبلية، ولا تماشي اميركا وحلفاءها. ويقول الأميركيون اليوم إنّ قرارهم، هم والسعوديون، بإطلاق حركة الجهاد السلفية من أفغانستان، وإحراق البلد ضمناً كان، ببساطة، خطأً آخر.

جايمستاون

مشكلتنا مع أميركا ليست بسبب «تطرّف» أو لأننا «راديكاليون». الامبراطورية هي المتطرّفة، هي التي لا تقبل نصف خضوعٍ (وقصّة روسيا مع الغرب، في السنوات الأخيرة، دليلٌ ساطعٌ على ذلك)، وهي التي تثبت لك ــــ بكلّ صورة وفي كلّ مناسبة ــــ أنّ حياتك وحياة أهلك لا قيمة لها، وهي التي تضعك، مثل «داعش» وأمثاله تماماً، أمام خيارٍ صفري بينك وبينها. من الغريب أن الكثير من العرب «الليبراليين» الذين يحترفون نقد الأنظمة وقمعها للناس وتأثيرها المدمّر على المجتمع لا ينتبهون الى نظامٍ إسمه الحكومة الأميركية، استهدف خلال سنوات قليلة خمس دولٍ عربيّة وجعل عاليها سافلها (لا يقدر أيّ نظامٌ ديكتاتوري على تسبيب هذا القدر من الخراب في هذا الزمن القصير).

هناك من يعتقد، صدقاً، بأنّ ليبيا والعراق وسوريا واليمن وأفغانستان ــــ والرحلة 655 وغارة دير الزور ــــ كانت كلها «أخطاءً»، وأنّه لا يمكن للإدارة الأميركية أن تدمّر بلاداً عن قصدٍ أو تشعل حروباً أو تقتل أطفالاً. هؤلاء هم عادةً من النّوع الذي يسعى باستمرار الى «تنوير» الأميركيين وحكومتهم، ويؤمن بـ»العمل من داخل النظام»، ويضع أمله في الرئيس القادم. الحقيقة، للأسف، هي أنّ «الخطأ» الوحيد في كلّ هذه القصّة، بالمعنى الفعلي الصّادق للكلمة، كان ذاك الذي ارتكبته مجموعة من السكان الأصليين لأميركا منذ أربعة قرون، حين حطّت على ساحلهم مجموعة صغيرة من المستوطنين الأوروبيين ــــ خائفين جائعين تائهين. فقام الأغبياء المساكين بإنجادهم وإطعامهم والترحيب بهم، بدلاً من أن يجهزوا عليهم على الفور.