مع اقتراب نهاية عام 2014، من الممكن أن يكون كلا النظامين العالمي والاقليمي على حافة تغييرات عميقة شبيهة بالتغيرات التي انطلقت عام 1914.
منذ قرن من الزمن، أخذ أمد طويل من الهيمنة العالمية البريطانية في التراجع، وبدأت دول صاعدة مثل المانيا ومن بعدها الولايات المتحدة واليابان تتحدى تلك الهيمنة. كانت البحرية البريطانية قد سيطرت على البحار السبعة لعقود وقادت بريطانيا العالم في مجال التكنولوجيا والتصنيع وترأست نظاماً عالمياً. ولكن بلداناً أخرى في أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية بدأت تلحق ببريطانيا وأخذ هذا العالم الأحادي القطب ينهار. واليوم، فإن الولايات المتحدة هي القوة العالمية التي أخذت في الانحسار، فبدأت هذه الفترة من هيمنة القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990 تقترب من نهايتها. فبعد اخفاقات في الشرق الأوسط، وتعثر في أوروبا الشرقية وشرق آسيا، وأزمات اقتصادية داخلية، وصعود تحديات من دول عالمية وإقليمية، بدأت هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي تتراجع.
منذ قرن من الزمن قامت انتفاضات اجتماعية قوية تتحدى نظماً سياسية راسخة كانت سائدة لقرون عدة. فقد ثارت الشعوب ضد الظلم الاجتماعي والفقر والبطالة والحكومات الفاسدة. وتحدت هذه التحولات الاجتماعية العميقة النظم السياسية القائمة كما غذت حركات أيديولوجية قوية من اليسار واليمين، بما فيها الاشتراكية والشيوعية والقومية العرقية واللغوية، والحركات المؤيدة للديموقراطية، والتطرف الديني أو الطائفي. واليوم نرى تقلبات درامية مماثلة، ليس فقط في العالم العربي، بل أيضاً في إيران في الآونة الأخيرة، وبشكل متقطع في الصين وروسيا وأجزاء من أميركا الشمالية والجنوبية. فقد عمّقت العولمة الاقتصادية التفاوت في الدخل والانقسام الاجتماعي في كل أنحاء العالم وزاد التواصل التكنولوجي من وعي الشعوب وانتظاراتها.
منذ قرن من الزمن كانت ظاهرة «الفوضوية» (Anarchism)، والآن نسمّيها الارهاب. ولكن أساليب استخدام العنف والسيارات المفخخة والاغتيالات هي نفسها من نواح عدة. فاغتيال رمز للقوة في العالم القديم، كأرشيدوق النمسا فرانز فرديناند عام 1914، لا يختلف كثيراً عن الهجمات على رموز للقوة في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة. فكلا العملين أطلق العنان لسنوات من الصراع.
منذ قرن من الزمن، كان العالم يتيقظ لقوة الاتصالات الفورية الناجمة عن شبكة التلغراف، واليوم لدينا شبكة الإنترنت، التي تنشر الأخبار وتشكل المزاج العام في كل أنحاء العالم في ومضة. عبر التلغراف، سُمِع دوي طلقات النار في سراييفو في أنحاء العالم، وأصبحت الاحداث تتطور في سرعة غريبة، وأسرع بكثير من قدرة الأنظمة السياسية القديمة على التعامل معها واحتوائها.
منذ قرن من الزمن بدأت التغيرات المتسارعة في التكنولوجيا العسكرية تزعزع استقرار موازين القوى التي أُنشئت على أساس قديم للأساطيل من القوارب الخشبية، والجيوش على ظهور الخيل. ان تكنولوجيا الدبابات وصعود القوة الجوية غيّرت كل ذلك وأدت الى حربين عالميتين. اليوم يجري تحدي هيمنة تكنولوجيا الأساطيل البحرية والقوات الجوية الحديثة من خلال تنظيمات ارهابية طورت اساليب المواجهات غير المتكافئة (Assymetric Warfare)، وانتشار تدريجي للأسلحة النووية، والديناميات المتغيرة للطائرات من دون طيار والحرب الإلكترونية (Cyberwar).
منذ قرن من الزمن، شكّل تفكك البلقان نقطة اشتعال للصراع العالمي، اما اليوم فالصراعات المتعددة في الشرق الاوسط قد تشكل فتيل الانفجار. في الأمس القريب، أوشك الشرق والغرب على الذهاب إلى الحرب على خلفية التوسع الإسرائيلي والحروب العربية- الإسرائيلية المتكررة. واليوم، فإن القوى العالمية والإقليمية انجرّت إلى الحرب ضد الارهاب وتنظيم «داعش» وللسيطرة على بلاد المشرق العربي. وغداً، قد يتصادم الشرق والغرب حول السيطرة المستقبلية على نفط الخليج مع تراجع احتياجات الولايات المتحدة وازدياد عطش آسيا الى النفط والغاز.
ان الشرق الأوسط نفسه يمر اليوم بأزمات لا تختلف كلياً عن تلك التي كانت قبل قرن من الزمن. حيث كان يجري تحدي النظام العثماني السائد من طريق المطالبة الداخلية بالحرية والمشاركة السياسية وتقرير المصير ومن طريق ضغوط خارجية نابعة من نظام عالمي متغير. كان يجري تحدي مبادئ الإمبراطورية القديمة للحكم من جانب الحركات الجديدة التي تحمل افكاراً حول الديموقراطية والقومية العرقية واللغوية فضلاً عن الحركات الدينية. كان يجري التنازع على دور الدين في السياسة من الجانبين: من أولئك الذين كانوا يدفعون في اتجاه العلمانية، وأولئك الذين اعتقدوا انه يجب إحياء دور الدين في الدولة والمجتمع. كما كان يجري التنازع على دور المرأة بين أولئك الذين ينشدون لها المساواة الكاملة وأنصار النظام التقليدي الأبوي الذين يسعون الى الابقاء عليها محصورة في مكانة متدنية وتابعة.
منذ قرن من الزمن، بدأ انهيار النظام القديم بأمل كبير في الثورة العربية الكبرى ولكنه انتهى بمرارة باتفاق «سايكس- بيكو»، ووعد بلفور، وسنوات من الهيمنة الاستعمارية الغربية. في السنوات الأخيرة ايضاً بدأت الانتفاضات ضد النظم العربية القائمة بآمال كبيرة بمستقبل أفضل، ولكنها انتهت بمرارة في كثير من البلدان التي انحدر البعض منها الى الفوضى والحرب الأهلية او تخبّط البعض الآخر في تجارب سياسية وأمنية مكلفة. قد تكون تجربة تونس هي الوحيدة الناجحة بين دول الثورات العربية الاخيرة.
في المشرق العربي ولّت – وربما إلى امد غير مسمّى – حدود الدول التي أُنشئت بموجب اتفاق «سايكس- بيكو». ان لبنان والأردن ما زالا على قيد الحياة، ولكن سورية والعراق لم يعودا موجودين كدول او مجتمعات سياسية بالمعنى الحقيقي. في الواقع هناك دولتان: «شيعية»، اذا جاز التعبير، متحالفة مع ايران ومتمركزة في بغداد ودمشق، ودولة «كردية» قيد الصعود، ودولة «سنية» ناشئة في المساحة الممتدة بين غرب العراق وشمال شرقي سورية. واليمن يتفكك أيضاً على أسس طائفية وإقليمية، بينما ليبيا تتمزق في أتون حرب اهلية على اسس اقليمية وقبلية وأيديولوجية.
كما تبقى مسألة الحاكمية من دون حل حاسم، بين نماذج مختلفة من الاسلام السياسي السلطوي، وأنظمة ملكية أو عسكرية متنوعة، وتجارب – في تونس والى حد ما في لبنان – للديموقراطية. وعادت قضية دور الدين في السياسة الى الواجهة بين الذين يعملون لإعادة بناء الخلافة ومن يعملون لعزل الدين والحركات الدينية كلياً عن العمل السياسي. في حين أن المرأة ما زالت تكافح لتأكيد حقوقها في الشراكة السياسية والاقتصادية الفعلية والامان الفعلي من الاستغلال أو الاعتداء الجنسي.
اما النظام الإقليمي العربي فهو ايضاً مأزوم. فقد مثّل نشوء وتوسع إسرائيل التحدي الرئيس معظم القرن الماضي. واليوم فإن تدخلات إيران في العراق وسورية ولبنان وغزة على طول الطريق إلى اليمن، تشكل أقوى تهديد للنظام العربي.
لا شك في ان التغيير يجلب الأخطار، ولكنه يجلب معه ايضاً آفاقاً جديدة، وكل أزمة يمكنها أن تتحول إلى فرصة. فاضطرابات الحرب العالمية الأولى خلقت ايضاً بذور عالم جديد في منطقة الشرق الأوسط، وهيّأت في نهاية المطاف ظروفاً للتحرر الوطني والكثير من أشكال التقدم الاجتماعي والاقتصادي. ولكن خلافاً لمعظم البلدان في آسيا وأوروبا والأميركتين، فإننا لم نستفد من الفرص المتاحة في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبدلاً من القفز إلى الأمام على طريق التنمية الاقتصادية والسياسية، فقد أُصيب معظم الدول العربية بالركود.
اننا نعيش اليوم تحولات تشبه بحجمها وعمقها تلك التي كانت سائدة عام 1914. نأمل ألا يكون القرن المقبل ايضاً «قرناً ضائعاً»، كما وصف الراحل الكبير غسان تويني التجربة العربية في القرن العشرين. دعونا نأمل أن نتعلم من دروس الماضي وأزمات الحاضر، للبحث عن سبل لبناء مستقبل أكثر عدالة وحريةً وازدهاراً واستقرارا.