Site icon IMLebanon

مئة عام وعام.. صحافة

لا تنتهي حكايات صنّاع الكلمة في مواجهة الموت، منذ دخل الرأي الحر على خط بناء الحضارات وتقويم الأنظمة وترشيد المجتمعات، فكان أن نُصّبت المشانق قبل مئة عام وعام في ساحتي البرج والمرجة في لبنان وسوريا، ومن بعدها تتالت فصول الترهيب مدخرة أدوات موت مستحدثة بينها بتر الأصابع والحرق بالأسيد والخطف والتصفيات والاغتيالات. ومع ذلك بقيت الصحافة مرآة المجتمعات ومقياس البطولات والرقي أو السقوط في الهاوية في بلدان ما زالت تناضل لأجل الإنسان، وما زال ثمة من يدفع حياته ثمناً لـ«عقل متبصر في وقت حرج»، والأخير عنوان اختارته الأمم المتحدة لهذا العام في يوم الصحافة إنما لتذكر بالشهداء الذين تقاطروا في ساحات الإعدام وأمام منازلهم أو خلف مكاتبهم، وقد قضى في العقد الأخير نحو 837 صحافياً وعاملاً في قطاع الإعلام من حول العالم، وبقي الفاعل مجهولاً بنسبة 92 في المئة من حالات القتل. فأي الديموقراطيات تلك التي ترتقي في زمان يخبّئ في خلفيته صحافياً يبصق الدماء إنما لأنه اختار أن يكون نبض المجتمعات والوجه الصارخ بالحقائق على الأرض؟.

وفي الحقائق اللبنانية، مرآة الأنظمة صحافة إما تُصان أو تُنتهك، منذ ثلة الشهداء الذين أعدموا في السادس من أيار، الى محاولات كمّ الأفواه التي طالت بالرصاص نقيب المحررين السابق نسيب المتني في السابع من أيار من العام 1958، ومن بعده اختطف الصحافي فؤاد حداد الملقب بـ«أبو الحن» وقتل على أيدي مجهولين. وفي 16 أيار من العام 1966 اغتيل الصحافي كامل مروة وسقط مضرجاً بدمائه خلف مكتبه في دار الحياة. وبعد عشر سنوات اغتيل رئيس تحرير «لوريان لو جور» إدوار صعب في 16 أيار من العام 1976 برصاص قناص بينما كان متوجهاً الى مكتبه في الحمرا، إنما ليكمل ما كتبه: «لا أحلم سوى بدولة حديثة. وهذا الحلم هائل في ذاته. دولة تكف عن التفكير بالصغائر. في اختصار، دولة تعيش بدل أن تكافح لتبقى على قيد الحياة».

ويُسجل التاريخ كيف أحرقت يد الصحافي سليم اللوزي بالأسيد قبل أن يُطلق النار على رأسه ويُلقى في أحراج بلدة عرمون في الرابع من آذار من العام 1980، وكل ذنبه أنه كتب: «اذا كانت الغربة قد فرضت على الصحافة الانفصال عن الوطن، فإنها يجب ألا تفرض عليها الانفصال عن حرية الوطن». وفي تموز من العام نفسه اخترقت 6 رصاصات من النوع المتفجر جسد نقيب الصحافة رياض طه، هو الذي توقع اغتياله مخاطباً قتلته: «ليتك تقرأ لتدري أن المصارعين من رجال الأفكار والمبادئ لا يوهن عزائمهم إرهاب أو اضطهاد ولا يخيفهم سلاح، لأنهم لا يخشون الموت. ولكنك لا تقرأ ولا تدري. وإذا قتلتَ رياض طه، فإن قتله سيخلده وستنبعث من دمه نار تلتهمك أنت وذريتك. حقاً، إنني لا أحقد عليك بقدر ما أرثي لك».

ومن بعده سقط رئيس تحرير النداء سهيل طويلة بالرصاص. وبعد أن رثاه رفيقه الصحافي حسين مروة، اغتيل الأخير بالطريقة نفسها في 24 شباط من العام 1987. وكرّت سبحة الاغتيالات لتقطف في العام 2005، إحدى زهرات «ربيع بيروت»، الصحافي والكاتب سمير قصير الذي حُوكم لأنه أشهر ذات يوم حلمه على النحو الآتي: «بلادٌ تنهل من اختلافاتها لتحولها مصدر قوة وتماسك. بلاد متحررة من قيود الأنانيات الطائفية والعائلية. بلاد محصّنة بقضاء مستقل، وبتمثيل شعبي ومجتمع لا تقيّد حركته ولاءات مفروضة، ولا يحرس انقساماته عسس المخابرات، مجتمع يضمن تكافؤ الفرص وثقافة تنحاز لتحرر فلسطين ولا تخشى حرية سوريا ولا العراق».

وعلى غرار هذا الحلم نادى مدير «دار النهار»، ففجّر الحقد جسده في 12 كانون الأول من العام الذي شهد ولادة ثورة الأرز. غاب جبران وبقي قسمه وكلمات تشبه الوصية: «ان وحدة اللبنانيين اقوى من أي وصاية، ومن أي سلاح، ومن أي إرهاب واحتلال».

ومنذ تقلصت مفاعيل ورواسب الاحتلال السوري، ودخل البلد في حقبة ما بعد الاستقلال الثاني، انتقلت ساحات استهداف الصحافيين الى سوريا حيث سقط في النصف الثاني من العام الفائت نحو 53 إعلامياً، بينهم 43 صحافياً قضوا على يد النظام السوري، ويضاف الى اللائحة أربعة صحافيين قضوا في نيسان الفائت، لتسجل الساحة السورية أكبر نسبة في العالم من حيث استهداف الجسم الإعلامي، وبدلاً من أن تشكل الدروع الزرقاء رادعاً لاستهدافهم، بات الإعلامي في ساحات المعارك هدفاً لكمّ الأفواه وللعودة الى المربع القديم، ليس بتعليق المشانق، وإنما بتفجير الأجساد حتى لا يتبقى منها معلم وشاهد يدلل: «هنا يرقد صحافي بطل».

.. وتبقى الصحافة مرآة الأنظمة، متى عمرت حل العمران ومتى استهدفت تشلّعت الصورة لألف مشهد ومشهد.