هناك صفحات لا تُطوى، تبقى مفتوحة ووجوه لا ترحل. دائماً مقبلة وكتب لا تنتهي. بين المحدود واللامحدود. وحضور لا يأفل. دائماً الصورة المشعّة. تتحرك أفكارها لتُحرّك الواقع معها. تزحزحه. تُغيّره. تحفر فيه. تعمّق احتمالاته. هناك قامات، تُحس انك في حاجة إليها تفتقدها. «وفي الظلماء يُفتقد البدر» لا سيما في أزمنة «النقصان» والخطر والتراجع والنكوص والانهيارات والخمول والشقاق والالتباس.
انه الشيخ عبدالله العلايلي (1914 1996) اللغوي، العلاّمة، الفقيه، الثائر، الوطني، التقدمي، المندفع إلى الأمام بجنون افتتاح المجهول والمغلق والسادر والجامد، عبدالله العلايلي الذي تصادف اليوم يوم مئوية ولادته، اللبناني على عروبة حضارية، العروبي على لبنان منفتح، مجترح، مُبدع، حمّال أفكار وحرية، وديموقراطية وهُويات مشرعة، على غير انعزال واحادية، هويات متعددة تمزج الذات بالآخر، بلا حدود سالبة ولا اسوار. انه رجل الهويات المتحولة، عرف كيف يحمل شعلة الايمان، الدين وما وراءه وما حوله، وما لسانه، وما توغله في باطن الأمور والظواهر. الدين وفقهه وتفسيره وقراءته المعلنة وخزائنه المفتوحة على المجتمع والانسان والحياة والبنى السياسية والفكرية والأديان الأخرى وكنوز التحولات. كأنه ردم كل هوية جامدة، أصولية، ماضوية، عاثرة بين الاسلام وتاريخه، وحاضره ومستقبله. انه العقل المدني المؤمن بالغيب والروحي المسكون بالعقل. جامع ارسطو وافلاطون وابن رشد والغزالي أي ما عند الاثنين من قيم مصفاة، جامع المتفاوتات، على أرض مشتركة، بين الاسلام والمسيحية، بين التاريخ واللاتاريخ، بين المادة وإلزاماتها والروح وآفاقها.
هو المنخرط الكلي بجوامع الأسئلة الكبرى، السياسي من موقع الزاهد المتعالي، والثقافي من أمكنة القراءة المتعددة. كان رجل الساعة الملحة، والحدث المُلح والظاهرة المفترضة. ابن زمنه؟ نعم! وأكثر. وارث التنويرية النهضوية التي ما انبعثت في اللحظات الاسلامية والعربية العالية، المشعّة، الخلاقة، تلك التي ما انفصلت عن هموم الفرد، والأمة والوطن والحرية. أو فلنقل من سُلالة الذين باحتضانهم القيم الاسلامية الماضية متزاوجة مع الحاضر والمستقبل. انه الأفغاني على توغل أكثر في مناطق العقل. ومحمد عبده على تماس مع ارث الأمم الأخرى. والكواكبي على التصاق بالحرية ونفور من الاستبداد. وفرح انطون على تقارب مع الاشتراكية. وطه حسين على عناده العقلاني، الدكارتي بلا الكوجيتو، والاشتراكي بلا الأيديولوجية والعمومي بلا الشمولية، والعروبي بلا عنصرية، والتغييري بلا عنف واللغوي بلا اسنادات التجمد، واللبناني بلا التقوقع القبلي والمذهبي والمناطقي والبيروتي بلا هوية محطومة. النقدية بلا الفولتيرية المتعثرة والتوحيدي (أبو حيان) بلا شطحات الصوفية والجاحظي على الخصب والبيان واللغة والنقد الاجتماعي. والمُعجمي المجترح. وهو في كل هذه الصنوف ، الكُلّي الوقع، والموطئ، والتطلع يتميز عن مجايليه وسابقيه بأنه الهاجس بالتوحيد. هذا العالم قد يكون ذرات متحركة وتضاريس وانشقاقات وتباينات لكنه احتمال دائم نحو اللقاء والتمازج والتوحيد على غير انصهار قسري أو طغيان أو غلبة مستوطنة، أو اقتراحات أبدية. حاول، وبعقل مستقرئ، أن يجامع الاسلام والمسيحية، بقيمهما المشتركة وثوابتهما المُتهيئة ليكون زمناً انسانياً، مختلطاً بينهما: انها الثورة. أكثر من تعايش وتجاور، انه يُدرك ينبوع الأشياء بجرأة. بلا ارثٍ ثقيل عائق. أو موانع تاريخية. وكان ان اتهم، بمحاولته هذه باختراع «دين ثالث». جديد، وقام عليه من قام، آخذاً الأمور بمظاهرها «السياسية» او الفقهية الضيقة. أراد توحيد مفاهيم العقل الفلسفي والجدالي والتفاعلي من دون تقسيمات مبسترة. العقل الفلسفي جوهره العقل الكلي الواحد. مساره أبعد من التقوقع في المفاهيم المجردة الذهنية، بلا اعتمال ثقافي اجتماعي فردي مادي، تاريخي. العقل التاريخي. وكل عقل تاريخي بأدواته هو تفكيك بنائي وفعل تغييري، مجتمعي، سياسي، وطني ، فقهي، ديني. لكن التوحيد عنده، لا يعني، محو التمايزات والمساحات الخاصة. هكذا، فَهِم العروبة بمعناها التوحيدي (مسترسلاً بساطع المصري وقسطنطين زريق وصلاح البيطار) والشعبي واللغوي والتاريخي: توحيدية اجتماعية تحتية، فكرية، أدبية. لكن من خلال الحفاظ على «هوياتها» اللامحدودة، وبفردياتها المميزة، وخصائص كل بقعة وبلد وطائفة وعرق ومذهب ونزعة. انها العروبة التي تُصنع كل يوم بتناقض معطياتها ووقائعها. لا عروبة منغلقة. أي لا اسلام منغلق، أي لا مسيحية منغلقة. أي لا حزبية انعزالية. أي لا طغيانية عنفية. كل عروبي هو لبناني أو سوري أو مصري… وكل من هؤلاء عروبي باختياره، وبسبله وحاجاته واقتناعاته. انها من مستوفيات الحرية لا الضغط. ومن مستلهمات التواصل لا القهر. ومن مستدركات المستقبل لا التقهقر. وعندما كان للفكر القومي في ثلاثينات القرن الماضي ان يظهر، من ضمن الحركات التنويرية والانفرادات الجماعية، وهاجس الخروج من التابوهات العصبية، كان العلايلي من الطلائع. وعندما كانت العروبة من مسارات التحرر والتحرير، كان العلايلي من رُوادها. وعندما كانت العروبة تصنع تاريخها بجدلية حية مع شعوبها كان العلايلي من خلائقها. لم يؤمن هذا العلامة الكبير ان هذه العروبة تشترط المرور بأنظمتها (التي جاءت ثورية واستنقعت في تجمدها) وانما انظمتها ومفاهيمها بالذات تتطهر بشعوبها. فوحدة الشعب العربي لا ترتهن «بوحدة» انظمتها الفوقية التعسفية، ولا تصنع في الثكنات، او في المعاهدات، أو القرارات «المجردة» انها صنيعة ناسها. التوحيد هنا يحمل هوياته الكثيرة. لا «شكل الحكام» ولا حتى ايديولوجياتهم وتهافتهم. هكذا كانت النزعة التوحيدية عند العلايلي: لا قدراً ولا نعمة (من فوق) ولا هبة ولا الزاماً. انها من مفترقات الاختيارات الكبرى. أي الاحتمالات المفتوحة على تفاعلاتها التطويرية، لا مع ذاتها فحسب، بل مع كل العصائب الكونية، فالعروبة هي الجذور والفروع لكن هي ايضاَ العالمَ. والحضارية تعني التلاقح مع الآخرين: من الشرق إلى الغرب. أوَلم تقم النهضة التنويرية على هذه المرتكزات: الذات لا تحاور نفسها فقط لأن محاورتها نفسها فقط، تؤدي إلى الاستنقاع. فهي مُنجز العرب ولكن ايضاً من منجزات الآخر. هي من ارث الماضي ولكن من منظومات الحاضر الآتي.
وهذا ما أراده العلايلي في سلاحه التوحيدي: من «التوحيدية» الاسلامية المسيحية إلى التوحيدية العروبية الحرة، إلى التوحيدية الحضارية. كيف تصنع حضارتك وحدك؟ أي كيف تصنع موتك؟ كيف ترفض الآخر؟ أي كيف ترفض ذاتك؟ الذات لا تنجب الذات بل تمحوها. والآخر وحده لا يصنع ذاتك. بل يمحوها. انه التزاوج الحضاري، الكوني بكل مفارقاته وظواهره وانجازاته. أو لم يقل العلايلي» ان القومية العربية هي الشعور برابطة متينة تشد الأمة إلى العيش المشترك؟» والعيش المشترك لا يعني، المجاورة فقط. بل التمازج. ألم يقل العلايلي «ان هذه القومية تركز الحكم على أن يكون شعبياً يذعن لإرادة الجماهير بعيداً عن الفرض القسري والعنف الداخلي. «وهذا يعني ارادة الشعب المشتركة المتآزرة على تعددها، ألم يقل هذا العلامة بوجوب وجود فلسفة تكون قيمتها في مقدار صلاحها، وعناصرها الأساسية اللغة المشتركة والمصلحة المشتركة والتاريخ المشترك«، أي انها صنيعة المجتمعات. واللافت أن العلايلي فصل الدين عن السلطة والدولة والحُكم : (على خلاف الأفغاني) وعلى خلاف الاخوان المسلمين بل وعلى خلاف ما تدارك اليوم من دول ذات هوية ايديولوجية علمانية وشمولية، حيث الخلفية الفكرية كالشيوعية، «دين الدولة» (المادي) الوحيد. أي على غرار النازية (دين الدولة العِرق) أو الكيان الاسرائيلي اليهودي. فالتوحيد هنا يتم من خلال المنظومات الفوقية العسكرية، أو الحزبية ، أو المذهبية… (تماماً كما نجد اليوم في الجمهورية الاسلامية (الشيعية) في إيران. وكل ايديولوجيا فوقية، علمانية أو غير علمانية لا بد أن تنضم سريعاً إلى الماضي، لأنها تتجمد في حاضرها. وتأسر حركة المجتمع وتتمسك بهوية واحدة قاتلة. وهنا بالذات يمكن أن نقرأ مسارات الحرب في لبنان من خلال العلايلي منذ اندلاعاتها عام 1975، وظواهر التقسيم الطائفي والمذهبي الذي حوّل لبنان من بلد واحد ذي هوية متعددة، إلى بلد الهويات الأحادية القاتلة وهذا ما حذر منه العلايلي في نصه الكبير «اني اتهم» (على غرار اميل زولا) في عز الحروب المذهبية في لبنان، التي خرجت على مناحي التوحيد. وهذا ما نفهمه عبر تشتّت الأمة العربية اليوم (وأمس) من خلال حروب مذهبية قصمت ظهرها وأفرغتها من كل شيء. ان هذه «الحروب» والصراعات المذهبية اليوم، ليست سوى تدمير العقل التنويري التوحيدي والذي نادى به العلايلي استمراراً مع فكر النهضويين العرب الكبار وهذا يعود حتماً إلى نوع من الانحطاط الجديد الذي ساد خمسة قرون. عودة إلى الوراء. وتخّل عن اللحظات العالية، المضيئة في التاريخ الاسلامي والعربي، ومنجزاته الحضارية والعلمية والفكرية والأدبية والفلكية والحسابية وفلاسفته وكتابه. بمعنى آخر كان العلايلي يرى في هذه الظواهر الاقتلاعية محواً للذات الاسلامية العروبية، ببدائل تهدد حتى مصير العرب والاسلام كحضارة. وماذا فعل النظام الايراني غير ذلك؟ وماذا فعلت الحركات «المتطرفة» التي تدعي الأصولية والسلفية كداعش، والقاعدة غير ذلك! من هنا بالذات يمكن ان نفهم عمق مقاربات العلايلي التي تتصل بالهويات القاتلة والانغلاق والعودة الميتة إلى ماضٍ ميت والتفكك والعدمية وصولاً إلى تجريد الدين من جوهره الانساني والوطني وتحويله ظاهرة عنفية تنفي وجود الاختلاف، والتعدد.. وصولاً إلى فكرة التوحيدية.
لكن، العلايلي وهو العلاّمة والمتعدد يربط (إلى حد كبير) كل هذه الأمور بلسان العرب. أي باللغة وكان في مقدمة اهتماماته السعي الملح، الذي يحافظ من جهة على الإرث التاريخي (والديني) والاجتماعي ومن جهة أخرى، يدعو إلى ان يكون كذلك سجل التطور اللغوي المتصل بحركات المجتمع وتطورها. هذا ما وضعه في كتابه «التاريخ المعجمي العربي» مكملاً مشروعه عن العلاقة بين النظرية والتطبيق في معالجته هذا الموضوع. وأي مسافة بين الرؤيا والممارسة، أو احتمالاتها أو تحقيقها. في كلا الأمرين يبدو كتابه «التاريخ المعجمي العربي» متجاوزاً للتجارب السابقة ومرساة للقواعد اللاحقة، لا سيما أن هذه قضية تدهور اللغة تتفاقم وعلى اطراد وازدياد من دون حلول خاصة، مستمرة. كأنه يسد النقص بالاحتمال. أو التقصير بالسعي. والمعجمية اليست نوعاً من «التوحيدية»؟ استجماع تحقيقات اللغة وتطورها واستدراك مزالقها والتقاط صدماتها مع التطورات الاجتماعية والنفسية والعلمية والتكنولوجية والطبية، الآخذة بالنمو بوتائر متسارعة؟ وهذه العجمية المنفتحة، لا تنفصل عن الدراسة «الصوتية» التي اشتغل عليها العلايلي. فالصوتيات «هي: من اسس قيام اللغة وينبوعها. لكنها مركبٌ وعر تظهر الفروق بين النظرية والتطبيق ايضاً. فهناك صعوبات عضوية بين الباحث والتاريخ الصوتي لأن الكشوف عن الأصول القديمة للأصوات وتطورها ولهجاتها وتمازجاتها سواء في نشأتها أو حتى في بداياتها، فقيرة جداً في المقاربات الملموسة المباشرة. من هنا تنعدم الاحتمالات واعمال الرصد والدراسة والعادات والتقاليد والتواريخ، وهذه كلها غير كافية. فهي جزء من التاريخ العلمي (المفقود) الفيلولوجي، الفقهي، والنحوي، اي ما يمكن مقارباته بالانتروبولوجيا المكانية الحيّة، وصولاً إلى الأنتروبولوجيا الصوتية (أي الانتروبولوجيا المجتمعية) الخاصة باللهجات والنبرات والتشاكيل واللفظ والاختلافات والتفاسير والتحاليل. انها الأسئلة المعلقة، وهذا لا يقلل من قيمة سعي العلايلي ولا من جايله كالعلاّمة الشهيد الشيخ صبحي الصالح (قتله النظام السوري) ولا كذلك من دراسات ابن جني والمبرد. لكن هذه المسائل والأسئلة في مجال المعجمية واللغة وفقه اللغة والصوتيات، هي. في النهاية على اتصال بالأدب وبالكتابة (نتذكر أبا الأسود الدؤلي، وسواه وسعيه إلى تشكيل القرآن لضبط معانيه وآياته وسوره).
وعبدالله العلايلي إلى تمكنه من الصوغ المصطلحي العلمي، والديني، هو كاتب، وأديب، وشاعر ومنفتح على كل انجازات الأدب العربي المعاصر له، والقديم وفنونه. لأن الانسان في نظره يحتاج إلى الفن بمختلف اشكاله وتعابيره وألوانه. ليعبر عن كوامنه ومشاعره وعن الذات الداخلية.. أي الجانب الروحي. فالفن حاجة. وازميل الفنان يساوي قلم الكاتب، في صوغ الفن. وفي مقاربته الأدب أو الفنون لا يخضع العلايلي لمدرسة تنظيرية أو سياسية أو ايديولوجية ولا إلى أي سقف لتقييد التعبير الابداعي. فالكتابة اختيار، وكذلك الموسيقى، والرسم مرتبط بكوامن الروح وإعتمالات البواطن والسرائر والمجتمع والحياة.
واذا كان العلايلي لم يركز كثيراً على كتابة الشعر إلا انه خاض هذه التجربة من خلال اعتماد العفوية بعيداً عن الافتعال الشكلي أو البلاغي أو حتى المجازي أو الغموض متجنباً المحسنات اللفظية واشكال البديع المسرفة؟ كأنه الغنائي الرومانطيقي الذي يرى ان الشعر يولد كاملاً كالطفل وهنا يختلف مع سعيد عقل الذي يرى الشعر صناعة ونحتاً وجهداً وصوغاً للغة ليقترب من الياس ابو شبكة وصلاح لبكي وعلي محمود طه وخليل مطران. انهم رومانطقيو الشعر العربي الحديث. وهذه «الشعرية» الكامنة والمعبر عنها عند العلايلي عقد عبرها صدامات كبيرة مع الشعراء والفنانين والكتاب والناشرين. صحيح ان تأثيراته الأدبية تعود إلى الماضي خصوصاً الجاحظ ونهج البلاغة للإمام علي وعبد الحميد الكاتب وابن المقفع وابي حيان التوحيدي (لكي لا ننسى ابن رشد وابن خلدون في الفلسفة) إلاّ انه انفتح على واقع الشعر اللبناني الحديث والمعاصر وطبعاً القديم.