تبدأ فكرة قيام الدولة في مرحلة متقدمة من تطوّر المجتمعات وتماسكها. وتقوم الدولة عندما تصبح حاجة بديهية مطلقة. وهناك التباس دائم حول العلاقة بين الدولة والسلطة، اذ انه في حالة ما تكون السلطة انعكاس لتطور الدولة والمجتمع، وفي حالة اخرى تكون السلطة تعبيرا عن تفكّك الدولة والمجتمع كما هو الامر في لبنان لان الدولة الوطنية صعبة التحقق، لانعدام أسباب الوحدة المجتمعية الوطنية.
ان أزمة قيام الدولة في لبنان عميقة وربما تكون مستعصية، ولأسباب متعددة أهمها انعدام تأثير الفرد في الخيارات الكبرى ومنها عملية اعادة تكوين السلطة بالذات، لأنّ الانتخابات وقوانينها لاغية لحقوق الفرد وتأثيره إذ أنها توضع بما يتلاءم مع مصلحة الجماعات الطائفية والمذهبية المنتظمة ضمن الجماعات السياسية على اساس قانون الجمعيات الصادر في العام ١٩٠٩ ايام الخلافة العثمانية اي قبل قيام دولة لبنان الكبير في العام ١٩٢٠.
ان الأحزاب والتيارات في لبنان رسميا هم مؤسسات مجتمع مدني بناء على القانون الذي أجاز عملهم السياسي وأعطاهم امتيازات عملانية وإعلامية من دون شروط وطنية اخلاقية لجهة عدم تعميق المذهبية والطائفية. وعلى الجماعات المدنية غير الطائفية ،اذا كانت موجودة أصلا، ان تعمل على انتاج قانون جديد للأحزاب يشرّع التكون السياسي على أساس وطني بما يتلاءم مع ضرورات انصهار الافراد في تجمعات وطنية تكون غايتها تأمين حقوق الفرد وتعزيز التماسك الاجتماعي الضروري لقيام الدولة الوطنية الحديثة.
ان عملية إعادة تكوين السلطة عبر قوانين الانتخابات الطائفية تعطي السلطة في لبنان شيئاً من القداسة كما كان الامر في القرون الوسطى في اوروبا، عندما كان الحاكم ظل الله على الارض. وهذا تماما ما نسمعه ليل نهار من رجالات السياسة بما هم ممثلين للاديان السماوية في لبنان. وبذلك يستحيل قيام الدولة على اساس هذه الاولويات الطائفية، لانه من غير الممكن صهر الأديان والمذاهب في دين واحد في حين يسهل انصهار الجميع في مجتمع وطني واحد.
ان الطائفية السياسية نافية تماما لضرورة العقد الاجتماعي لانها نافية أصلا لوحدة المجتمع. وبذلك تكون قوانين الانتخابات الطائفية مانعة لقيام المجتمع اللبناني الواحد والضروري لقيام الدولة الوطنية الحديثة. لذلك يستهوِن القادة في لبنان استخدام تعبير «عملية اعادة بناء الدولة» بما هي مهمة مستحيلة التحقق وتحتاج الى اعادة بناء دائم، والثابت الوحيد هو عملية اعادة تكوين السلطة.
لا يستطيع الفرد في لبنان ان يكون كياناً سياسياً كامل الحقوق والواجبات، لان قوانين الانتخابات تعد على الأساس ان الناخب هو الطوائف اي الجماعات الطائفية وأحزابها وتياراتها والتي تحتكر ايضا الشعارات الحداثية والتقدمية والتغييرية. وعندما تفتح صناديق الاقتراع تعود الى حقيقتها الطائفية، مما يجعل من الفرد عديم التأثير في اي عملية انتخابية. وهذا الامر مخالف للأصول الديموقراطية التي نشاهدها في بلدان العالم حيث ان الدولة تقوم على وحدة المجتمع وحرية الافراد مما يجعل من الفرد قوة تأثير وتغيير في الانتخابات.
ان الأحزاب الدينية والطائفية لا تستطيع التسليم بالضرورات البديهية للدولة الوطنية، وفي مقدمتها احترام العقد الاجتماعي البشري القائم على العدالة وحرية الافراد على اساس الحقوق والواجبات. وذلك يتنافى مع حقوق الجماعات الطائفية التي لا تؤمن بالدولة بل بإعادة تكوين السلطة وتقاسمها الى حد تطييف الإدارات العامة، مع الاستقواء الدائم بالخارج على شركاء الداخل منعاً للانصهار في هوية وطنية جامعة تؤدي الى قيام مجتمع وطني ودولة وطنية، وهذا ما يستدعي وضع قانون وطني للأحزاب قبل قانون الانتخاب.