سجل شطارته مرة أخرى٬ وقد لا تكون الأخيرة.. ولكن الفوز الحاسم الذي حققه رجب طيب إردوغان في الانتخابات البرلمانية التركية ما كان متوقًعا – بهذه النسبة المرتفعة على الأقل لولا المناخ الإقليمي المضطرب الذي نجح في طرحه كخطر داهم على استقرار المجتمع التركي.
يشهد معظم الأتراك بحذاقة إردوغان في توظيف نفوذ الدولة لصالح تعزيز مواقع محازبيه و«معاقبة» معارضيه. ولكن طرحه الانتخابي لشعار «الاستقرار والأمن»٬ قبل أي هدف آخر٬ في مرحلة يسود فيها مناخ قلق شعبي من اتساع العمليات الإرهابية داخل الأراضي التركية٬ وتلوح فيها احتمالات تخطي الانفلات الأمني في سوريا والعراق حدودها الجنوبية٬ كان طريق العودة إلى السلطة٬ وبأكثرية لم تكن متوقعة.
إردوغان تفهم هواجس الأتراك ونجح في توظيفها لصالح معركته الانتخابية وكاد يحقق طموحه لتحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي.. ولكن السؤال يبقى: بأي ثمن؟ على صعيد هذا الثمن بالذات يجوز استنتاج عبرة سياسية تتجاوز التجربة الانتخابية التركية إلى التجربة المستحقة٬ والمرجأة مرتين٬ في الدولة البرلمانية الأخرى في المنطقة٬ لبنان.
في سياق تركيزه على أولوية الحفاظ على استقرار تركيا وأمنها٬ حرك إردوغان تياًرا مذهبًيا شوفينًيا حّمله٬ بالدرجة الأولى٬ واجب حماية الدولة من إرهاب الداخل والخارج معا٬ أي الشريحة السنية الطورانية. واللافت على هذا الصعيد أن ضرب إردوغان على الوتر المذهبي جاءت حصيلته مجدية٬ إلى حد حمل نحو ثلاثة ملايين ناخب كردي على تقديم التزامهم المذهبي بشعاره الإسلامي على خيارهم للأحزاب الكردية في الانتخابات السابقة.
إذا كان ثمة عبرة يمكن استخلاصها من توقيت الانتخابات التركية قبل نتائجها وإن كان المعطيان لا ينفصلان عن بعضهما البعض في الظروف الراهنة للمنطقة فقد تكون أن أي انتخابات برلمانية قد يجريها لبنان قبل تسوية النزاع السوري أو حسمه ستكون فرصة للمتشددين دينًيا٬ والمتطرفين مذهبًيا٬ لتحسين تمثيلهم وتعزيز مواقعهم في البرلمان الجديد.
مع التسليم بأن تركيبة المجتمع اللبناني تختلف٬ بنيوًيا٬ عن تركيبة المجتمع التركي٬ فإن هذا التباين لا يصل إلى درجة تجعله بمنأى عن التيارات المتشددة التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط في الوقت الحاضر. والواقع أن المجتمع اللبناني أكثر تأثًرا من المجتمع التركي بأحوال جيرانه بل «يمتاز» عنه إن صح التعبير بتبعية عدد من أحزابه وأقطابه لبعض دول الجوار٬ واستطراًدا التزامهم في مواقفهم الداخلية بالقرار الخارجي.
ولأن الخلافات السياسية في لبنان غالًبا ما تأخذ طابًعا مذهبًيا٬ ولأن تعددية المجتمع اللبناني تعّمق٬ بالعادة٬ هذه الخلافات٬ ولأن أي تصعيد متعمد للخلافات السياسية المذهبية في لبنان٬ سواء أتى من الداخل أم من الخارج٬ قد يمهد لنزاعات أمنية قد تتحول إلى حرب أهلية جديدة.. لكل هذه العوامل بمكن اعتبار قرار نواب لبنان وإن على مضض تأجيل انتخاباتهم البرلمانية والتمديد٬ مرتين٬ لولاية المجلس الحالي٬ قراًرا «مقبولاً» في الظروف الراهنة رغم أن مبرراته لم تكن وطنية بقدر ما كانت مصلحية.
من نكد الدنيا أن يصبح الحفاظ على «الأمر الواقع» في لبنان أجدى من تحريكه٬ حتى ولو اقتضى ذلك إطالة فترة الشغور الرئاسي٬ والشغور٬ بدوره٬ مؤشر آخر على مخاطر الإخلال بالتوازن السياسي الهش في البلاد.
على خلفية هذا التوازن الداخلي٬ وفي ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية التركية٬ قد يصح وصف قرار التمديد للبرلمان اللبناني بأنه قرار «حق» يراد به باطل.. والباطل كما يتضح يوًما إثر يوم هو اضطرار نواب البرلمان الحالي لإقرار قانون انتخاب عصري يعتمد التمثيل النسبي من شأنه أن يطيح بالمواقع السياسية المذهبية للكثير منهم.
إلا أن إطالة «الأمر الواقع» في لبنان لا تخلو من محاذير٬ في مقدمتها تعويد اللبنانيين على ممارسات سياسية تتجاوز اللعبة الديمقراطية وربما تتجاهلها٬ كي لا نقول تدوسها٬ في نهاية الأمر.. ورحم الله من قال: «لكل امرئ من دهره ما تعّود»