IMLebanon

رسالةٌ من لبنانيّي 1948 إلى لبنانيّي 2016

لا السوريون يريدون التوطّنَ في لبنان، ولا المجتمعُ الدولي يريد توطينَهم هنا، ولا اللبنانيون عموماً يقبلون بذلك. لكن عنفَ القتال العسكري في سوريا (دمارٌ وأرضٌ محروقة)، وطبيعةَ التغيير الديمغرافي (الفرز الطائفي)، وإتلافَ مستنداتِ الانتماء (السجلاتُ العقارية وسجالاتُ النفوس)، وبطءَ الحل السياسي (مؤتمر جنيف)، واتجاهَ سوريا نحو الفيدرالية الجغرافية (سنية، علوية، كردية)، كلّها، تُعقِّد عودةَ النازحين إلى ديارهم حتى لو انتهت الحربُ اليوم؛ فكيف الحالُ والحربُ مستمرة، والمفاوضاتُ في جنيف في سنتها الأولى، والنازحونُ في لبنان في سنتِهم السادسة.

منذ ستٍ وعشرين سنة (1990) انتهت حرب لبنان عسكرياً، وإلى الآن لم يرجع من المهجرين اللبنانيين إلى قراهم سوى القليل القليل. أليس هذا المثل كافياً لنعتبر؟

كل شيء، إذن، يعزّز اليقين بأن استمراريةَ وجودِ النازحين السوريين سيتَثبَّت، وأنهم سيألَفون الحياةَ اللبنانية ويعتادون يومياتِها وبيئتها، خصوصاً وقد وجدوا مسكناً وعملاً ومدرسةً وجامعةً وبيئةً حاضنة وكلَّ مستلزمات الحياة العادية.

إنها طبيعةُ الأشياء وسُنّةُ التطبيع، وليست مسؤوليةَ النازحين السوريين حصراً. إنَّ النازحين السوريين لا يَهوَون التخلي عن وطنهم وأرض آبائهم وأجدادهم. فالسوريون وطنيون بنشأتهم، ولم يختاروا لا الحرب ولا النزوح ولا الاستيطان. إنهم يريدون الحياة فقط، والحياةُ في مِثل هذه الحالات هي الوطنُ البديل.

وبالمقابل ليس بوارد اللبنانيين افتعال صراع مع النازحين وقد شرّع اللبنانيون مدنَهم وقراهُم وبيوتَهم لاستقبالهم واحتضانهم. نحن لا نخاف النازحين السوريين، ولكن لا قدرة لنا على استيعابهم.

وما نخشاه هو أن طريقة معالجة المجتمع الدولي لأزمة النازحين السوريين في لبنان من شأنها أن تسيء إلى العلاقات بين الشعبين اللبناني والسوري وتؤسس لصراع بينهما، فيما لم ننته بعد من الحرب بين الشعب اللبناني والنظام السوري. نحن اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، نحب السوريين إلى أي فئةٍ طائفية أو سياسيةٍ انتموا. هذا شعب جار وشقيق وله، مثلَنا، بعدُه الآرامي ــ الكنعاني ــ السرياني والعربي.

تحت عنوانِ تنظيمِ النزوح السوري، تَعرُض الدول المانحةُ من خلال المنظمات الدولية على لبنان سلسلةَ مشاريعَ مرفقةٍ بحوافزَ ماليةٍ لكي تُقدِّم الدولةُ اللبنانية الملجأَ الطويلَ الأمد للنازحين السوريين. وإذا لبنان رفضها ينزعج السوريون ويَظنّون أن اللبنانيين ضدُّهم، وتَحجب الدولُ المانحةُ عنه المساعدات التي يجب أن تُعطى له أساساً من دون شروط، من أجل أن يتمكّن من البقاء صامداً أمام سيل النزوح الجارف لكل قطاعاته وقدراته.

صحيح أن بان كي مون لم يطرح التوطينَ السوريَّ، ولكن التوطينَ ليس قراراً فقط، بل نتيجةُ مجموعةِ إجراءات تؤدي إلى حصوله: من الوجود إلى السكن إلى العمل إلى التعليم إلى الاستقرار إلى التكيف مع الواقع. كما أن حقَّ العودةِ ليس أيضاً قراراً فقط، بل إجراء تنفيذي. والدليل بقاء القرار 149 الخاص بحق عودة الفلسطينيين دون تنفيذ.

إن إخواننا الفلسطينيين يعيشون في لبنان منذ 67 سنة، وأصدر المجلسُ النيابي تشريعاتٍ لتنظيم وجودهم وسكنهم وعملهم وتنقلهم وسلاحهم، وهم يحملون بطاقاتٍ من وزارة الداخلية اللبنانية. ورغم ذلك، لا يزال أطراف لبنانيون ينؤون بأنفسهم عن الاعتراف بالتوطين الفلسطيني في لبنان ويعتبرون كلَّ ذلك تسهيلَ عبور إلى القدس وغزه ونابلس ورام الله وفلسطين.

مع كل شعورنا الأخوي والانساني، لن نريدُ أن نقع مع النازحين السوريين سنة 2016 بما وقعنا به مع اللاجئين الفلسطينيين سنة 1948. من دون أن ننسى مرسومَ تجنيسِ أكثرَ من ربع مليون فلسطيني وسوري وغيرهما سنة 1993 (كم أصبح عددهم اليوم؟)

واضح أن لبنانَ لا يستطيع تحمُّلَ توطين النازحين فحسب، بل حتى بقاءَهم الطويل. فلا اقتصادُ لبنان ولا صيغة لبنان ولا ديمغرافية لبنان ولا جغرافية لبنان ولا ليرة لبنان ولا سوق العمل اللبناني ولا وحدة لبنان الهشة قادرةٌ على استيعاب هذه الحالة الإنسانية ذي البعد الأمني والسياسي والكياني. إذا كان لبنانُ أصغرَ من أن يُقسَّمَ أفليس هو أيضاً أصغرَ من أن يستوعبَ نصفَ مليونِ فلسطينيٍّ ومليوناً ونصفِ مليونِ سوري؟

حريٌّ بالمعنيين الدوليين والعرب بالأزمة السورية أن يضعوا مشاريع تنفيذية لإعادة النازحين إلى سوريا واجباً، لا أن ينظّموا بقاءهم في لبنان أبداً. إن الوقايةَ من التوطينِ أفضلُ من مواجهته لاحقاً، لاسيما وأننا نَشهد اليوم مع النازحين السوريين تكرارَ سيناريو اللاجئين الفلسطينيين من دون تعديل، لا بل بوقاحةٍ دوليةٍ أكبر، وعَمى بصرٍ وبصيرةٍ داخليٍّ أخطر: نفسُ الدول، نفس السفراء، نفس المنظمات، نفس المؤتمرات، نفس الاغراءات، نفس المنتفعين، نفس الطروحات، نفس الوعود الكاذبة، نفس المؤسسات، نفس الوسطاء. فلا نَقعنَّ في فخ التوطين مرة أخرى.

إن تقطير المساعدات المخصصة للبنان يَكشف أن الهدفَ هو الانسحاب العربي والدولي التدريجي من تحمّلِ مسؤوليةِ «النازحين» السوريين وتحويلهم «لاجئين» على عاتق الدولة اللبنانية. وكلُّ ما يُعطى للبنان هو لإبقاء النازحين هنا فلا ينتقلوا إلى أوروبا. وحِرصُ الغرب على الاستقرار في لبنان هو حرص على استقرارِ النازحين أكثرَ مما هو حرص على استقرار لبنان، فاستقرار لبنان يبدأ بانتخاب رئيس جمهورية، والباقي تفاهة.

يقول لنا السفراء وممثلو المنظمات الدولية: إذا لا توظفون الفلسطينيين سيصبحون إرهابيين، وإذا لا توظفون السوريين سيصبحون إرهابيين. هل سأل هؤلاء السفراء أنفسهم: ماذا سيصبح المليون لبناني العاطل عن العمل؟ والمليون و170 ألف لبناني الذين يعيشون على حافة الفقر؟ هل سيصبحون قديسين؟ لن نصبح قديسين ولا إرهابيين، بل سنعود مقاومين.