كمٌّ كبير من الدراسات الإقتصادية والمالية لبلد صغير مثل لبنان. ويبقى السؤال لماذا؟ ولماذا يتمّ فقط إظهارُ النقاط السلبية في هذه الدراسات؟ أسئلة عدة دفعت كثيرين إلى اعتماد نتائج هذه الدراسات لإعلان إفلاس لبنان. لكنّ التحليل يُظهر أنّ الواقعَ مغاير ولبنان يمتلك آفاقاً إقتصادية هائلة يُحاول العديد من المُستثمرين الإستفادة منها.
إنه لمِن الغريب رؤية هذا الكمّ من الدراسات عن لبنان في الفترة الأخيرة. وإذا كنّا نتفهّم دور وكالات التصنيف الإئتماني (مثل «موديز» و»ستندرد أند بورز») في القيام بدراسات دورية عن الوضع الإقتصادي والمالي في لبنان بهدف إصدار التصنيف، إلّا أنّ كثرة الدراسات التي تصدر عن المصارف الإستثمارية والمكاتب الإستشارية تطرح علامات إستفهام كبيرة حول الأهداف التي تكمن وراء حقيقة القيام بمثل هذه الدراسات خصوصاً أنها دراسات مُكلفة. والمعروف أنّ المصارف الإستثمارية ليست بجمعيات خيرية وبالتالي فإنّ هناك مَن يطلب مثل هذه الدراسات عن لبنان ويدفع ثمنها!
مَن يقف وراء هذه الدراسات ولماذا؟
يُعاني الإقتصاد اللبناني من ضعف هائل في الإستثمارات والسبب يعود إلى غياب العدالة في توزيع الثروات (قلّة تمتلك أكثر من نصف ثروات لبنان) وإمتناع المصارف عن تمويل الإستثمارات في القطاع الخاص. ولم تُساعد الأزمة السورية ولا الأوضاع السياسية التي نتجت عنها من جذب أو تسهيل الإستثمارات في لبنان، بل على العكس أدّى التخبّط السياسي إلى هروب رؤوس الأموال والإستثمارات. أضف إلى ذلك أنّ غيابَ الخطط الإقتصادية لم يسمح بتوجيه الإستثمارات في الأعوام 2007-2010 إلى قطاعات ذات قيمة مُضافة في الإقتصاد ما دفعها للذهاب إلى قطاعات ذات ربحيّة سريعة وقيمة مُضافة مُتدنية (مثل الخدمات).
إذاً لبنان بحاجة إلى إستثمارات في كل القطاعات ومن دون إستثناء والأهم أنّ كل إستثمار (غير الخدمات) ستكون له عائدات هائلة لا يوجد نظير لها إلّا في دول العالم الثالث والدول النامية. أضف إلى ذلك أنه وبنظر أصحاب رؤوس الأموال العالمية، يُعتبر الإستثمار في لبنان إمتداداً لعملية إعادة إعمار سورية وبالتالي تنصبّ الإهتمامات على لبنان وتدفع بالعديد من أصحاب رؤوس الأموال إلى طلب دراسات عن لبنان لمعرفة الوضع الإستثماري الحقيقي والأهم الظروف التي تواكبه. إذاً وبإعتقادنا من غير المُمكن القول إنّ كل هذه الدراسات هي مبادرة من قبل المصارف الإستثمارية ومكاتب الدرسات وبالتالي هذا الأمر يعكس الآفاق الواعدة على الصعيد الإقتصادي اللبناني.
ما هي أسباب النتائج السلبية لكل هذه الدراسات؟
لا يمكن نكرانُ الوضع المالي المُتردّي للدوّلة اللبنانية. وقد كنّا من السباقين بالقول إنّ مُشكلة المالية العامّة هي أمّ المشاكل وأنّ الوضع الإقتصادي هو فرصة حقيقية للنهوض الإجتماعي والإقتصادي في حال تمّ أخذ القرارات المُناسبة وتمّ الإستثمار في القطاعات المُنتجة. وهنا يُطرح السؤال: هل لبنان بحاجة إلى أموال من الخارج للإستثمار؟ الجواب بالطبع كلا بحكم أنّ أموال اللبنانيين تنام في المصارف وتذهب إلى قبرص تركيا لتملّك عقارات والإستثمار هناك.
وقد فهم أصحاب رؤوس الأموال العالمية أهمية حجز مكان لهم في الإستثمارات في لبنان وحجز حصّة من الأرباح، لما لمستقبل لبنان الإقتصادي من آفق واعدة مع حاجة إلى الإستثمار في كل القطاعات خصوصاً في قطاع الغاز والتموضع لإعادة إعمار سوريا. من هذا المُنطلق، تأتي الدراسات الإقتصادية التي تنشرها المؤسسات الدولية لتُبرزّ الوضع المالي السيّئ للدولة اللبنانية والحاجة إلى إستثمارات لا يتحمّس الكثير من اللبنانيين للقيام بها في ظلّ هذه الظروف، ما يدفع السلطات اللبنانية إلى طلب الإستثمارات الخارجية بشروطٍ قد تكون أكثر لصالح المُستثمرين.
ماذا عن تصريح وزير المال؟
أثار تصريح وزير المال إلى إحدى الصحف المحلّية والذي نقلته إحدى وكالات الأنباء عن إعادة هيكلة الدين العام، ردّة فعل عنيفة في أسواق سندات الخزينة اللبنانية (يوروبوند) وخدم هذا التصريح (أو مَن نقله) بطريقة غير مباشرة أهداف أصحاب رؤوس الأموال العالمية. وبغضّ النظر عن الظروف التي أحاطت بهذا التصريح ومسؤولية الإعلام بعدم التأكّد من صحّة هذه المعلومة لدى الوزير المعني قبل نشرها، يُمكننا الجزم أنّ لبنان ليس بحاجة إلى إعادة هيكلية دينه العام والسبب أنّ مصرف لبنان يمتلك 40% من دين الدولة مقابل 40% للمصارف التجارية و8% للضمان، وبالتالي فإنه ليس تحت الضغط الذي تتعرّض له الدول التي تقترض بنسبة كبيرة من الأسواق العالمية. أضف إلى ذلك فإنّ مصرف لبنان ما زال يمتلك القدرة على تسديد ديون الدولة (إذا لزم الأمر) لسنوات وأنّ رأسمال المصارف اللبنانية يبلغ 20 مليار دولار أميركي وهو أكبر بكثير من إحتياجات الدولة إلى الإستدانة كما وحجم شراء المصارف لسندات الخزينة اللبنانية، لذا نرى أنّ الحديث عن إعادة هيكلة الدين العام ينمّ عن عدم معرفة أو عن أهداف مُبيّتة.
من جهة أخرى تمّ الإتفاق بين وزارة المال من جهة ومصرف لبنان والمصارف التجارية من جهة أخرى على شروط تمويل الدولة (سعر الفائدة) وهذا الأمر يشمل الأجور، خدمة الدين العام وغيره. وبالتالي يتبيّن أنّ المشاكل المالية التي قد تعترض مالية الدولة قد تمّ تأجيلُها بإنتظار الإصلاحات المالية.
إنّ تصوير الوضع الإقتصادي في لبنان على أنه كارثي هو غير دقيق. لقد وصل الوضع الإقتصادي إلى أدنى مُستوى والمطلوب اليوم القيام بإصلاحات مالية ووضع خطّة إقتصادية وهذا أمر ضروري للنهوض بلبنان. وما يجب معرفته على الصعيد الإقتصادي أنّ كل إستثمار مهما كان نوعه وقيمته هو ذات قيمة عالية بحكم أنّ العائدات ستكون عالية على الصعد المالية، الإجتماعية… (Value Chain Analysis). بالطبع كل هذا يبقى مقروناً بتوافق سياسي نفتقر إليه حالياً مع عدم القدرة على تشكيل الحكومة وما ينتظرها (في حال تمّ تشكيلها) من صعوبات وتصفية حسابات لن تكون معها الأمورُ سهلةً وقد تجعل لبنان يفقد سيادته من باب الدين العام مع وضع لبنان تحت الوصاية الصندوقية.