IMLebanon

رئيس ماروني للجمهورية اللبنانية: الموارنة ولبنان المركز… ولبنان الرمز!

 

 

معظم القوى السياسية في لبنان، والمعنيّة بالقضية اللبنانية، تجهد وتجتهد لاختيار رئيس ماروني للبنان طبقاً لوثيقة الوفاق الوطني. لكن المعايير والمبادئ التي يتم في ضوئها هذا الاختيار ليست موحدّة بل هي تختلف بين جهة وأخرى إلى الحد الذي تصل معه إلى حدود التناقض. ومثل هذا الأمر يعود مبدئياً إلى أسباب ايديولوجية تتعلق «بالنظرة إلى لبنان في ذاته» كما كان يقول الدكتور شارل مالك. وكانت نظرة الموارنة إلى لبنان في ذاته أنه كيان سيّد ومستقل ومتعاون مع محيطه العربي ولكنه ليس جزءاً من الأمة السورية أو الأمة العربية أو الأمة الاسلامية بفرعيها: العربي والفارسي، بل هو كيان قائم بذاته له خصوصيته الدولاتية. وهذه الخصوصيّة تخضع لامتحان دائم ذروته القبول بنهائية الكيان لدى المترددين أو الرافضين لمبدأ نهائية هذا الكيان. إنّ اختيار رئيس للجمهوية يخضع بدوره لمثل هذه الاعتبارات، فما هي المعايير التي يتم في ضوئها اختيار رئيس الجمهورية؟ وهل هي مجرّد اعتبارات سياسية أو مصلحية أو شخصية، وإلى أي مدى يتم التعاطي مع هذا الموضوع، هذا الاختيار، على ضوء العلم والمبادئ الايديولوجية النابعة من نظرة الموارنة إلى لبنان المركز والرمز؟

 

إنّ علاقة المورانة الخاصة بجبل لبنان ليست مسألة اعتباطية بل هي ذات جذور عميقة في الايمان والجيوبوليتيك يفسرهما انتقال الموارنة من شمال سوريا إلى جبل لبنان على خط نهر العاصي وفي خط متناقض لمجرى النهر. وكان تمركزهم في منطقة جبّة المنيطرة فوق العاقورة وقرطبا. حيث وجدوا في هذه الأرض أغلى امنياتهم في ممارسة الايمان والحياة بحريّة. فالموارنة الهاربون من شمال سوريا لم يختاروا جبل لبنان بالصدفة بل عن سابق تصور وتصميم إذ كان يمثل لهم المناعة الأمنية من جانب والموقع المركزيّ من جانب آخر. وبحسب العالم السياسي جان غوتمان في كتابه المرجعي (سياسة الدول وجغرافيتها)، إنّ أهمّ ميزة جغرافية للحيّز الجغرافي هي الموقع. وأهم ما في الموقع كونه مركزياً. وتلك هي حال الشاطئ اللبناني عبر التاريخ إذ هو يمتلك قيمة جيو- استرتيجية ثابتة ومستمرة وكامنة عبر التاريخ.

 

أوجه المركزية

 

هذه المركزية لها أكثر من وجه:

 

• فيها المركزية الجغرافية على الخط العمودي لمنتصف الشاطئ الشرقي للمتوسط أي على منتصف السلسلة الغربية.

 

• وفيها المركزية المائية حيث تتساقط على جبل المنيطرة أعلى نسبة مياه في العالم العربي. بفعل شكل المسطح أتاح نشوء أهم بحيرة في قلب الجبل موريس الجميّل يقول عنها: إنّها تتحكم بمياه شرقي المتوسط على بعد 500 كلم. وبها ارتبط ويرتبط مصير المناطق المسيحية في لبنان من بعبدا إلى زغرتا. وعليه «فإن لبنان بحاجة لأن تحكمه قيادات تاريخية لا زعماء ولا متزعمون».

 

• وفيها المركزية الاستراتيجية المعروفة منذ زمن الرومان على ممر خطهم التاريخي من الطريق الروماني في بيبلوس إلى مشّان إلى أفقا. وكان الأباتي شربل قسيس يركّز ويشدّد في وضعية لبنان اليوم على خط أفقا – شمسطار الاستراتيجي!

 

• وفيها المركزية الديموغرافية التي كانت تجعل من بلدة العاقورة لوحدها أكثر سكاناً في القرون الوسطى من إهدن وبشري وتنورين وجبيل. ولهذا السبب، المرتبط باعتبارات امنية وعسكرية. ضمّ الأتراك بلدة العاقورة إلى بعلبك رغم انفصالها جغرافياً عنها. إنّ الاعتبارات الأمنية للبلدة التي كانت تتمتع بقوة الشكيمة والتقاليد العسكرية المعروفة دفعت بالسلطات العثمانية إلى ضمها لبعلبك بهدف تعطيل قدرتها العسكرية ولحسن مراقبة حركة سكانها!

 

• يضاف اليها ظاهرة عرفتها العاقورة دون غيرها من الحواضر المارونية وهي قيام العلمانيين فيها بانتخاب أول مطران وهو الأسقف يوحنا الذي نوديَ به مطراناً بانتخاب الشعب كله… وكان ذلك قبل اطلاق شعار شعب الله في فاتيكان الثاني.

 

جبل لبنان

 

وجبل لبنان هو أيضاً الجبل الرمز: فمار مارون عاش وتنسك على الجبل في قورش، ودير مار ماورن بني على الجبل، والروحانية المارونية مرتبطة بالجبل لأنّه رمز الأبدية والصفاء والارتقاء الروحي. ومنه يتم النظر إلى فوق إلى السماء… إلى الله في لقاء مباشر بين الأرض والسماء. ولذا صُوَر مار مارون كلها عيناه تنظر إلى السماء إلى فوق في لقاء عمودي مع الله.

 

ويؤكد الأباتي شربل قسيس أنّ الموارنة لم يعطوا جبل لبنان صفتهم أي جبل الموارنة ولذا أُعطي تسمية ورمز جبل الايمان والحرية. فهو موئل لجأوا إليه، وهو معقل احتموا به، وهو كيان حلموا به وتحقق عام 1920 بإنشاء لبنان الكبير وهو رمز عبّروا فيه عن روحيتهم إذ هو مختصر الايمان والحرية والهوية، والحياة المشتركة والخصوصية والمكان الذي يختصر قضية الانسان في الشرق. وبهذا المعنى فإنّ مفهوم لبنان كرمز وطني للموارنة هو مفهوم يتخطى مفاهيم السيادة والاستقلال لأنه يتحوّل إلى التعبير عن روحيّة شعب. (L’esprit d’un peuple)

 

لقد شكّل جبل لبنان ولا سيما سلسلته الغربية، وبشكل خاص قسمها الأوسط قاعدة للكيانية اللبنانية: الوطن والرمز الماروني. إنّه البلد الحلم للموارنة والأساس الثابت لشعبهم وكنيستهم وتاريخهم لأن كنيسة لا جغرافية لها لا تاريخ لها. لقد تحوّلت هذه المنطقة، ومعها لبنان كله من مجرّد حيّز جغرافي إلى رمز وجودي لاهوتي يختصر ايمان الجماعة المارونية وتاريخها، وخصوصيتها وهويتها ووجودها وحضورها، كما ساهمت عوامل الروح والقلب والعقل والارادة في بلورة هذا الرمز، وقيمة لبنان أنه رمز ماروني بامتياز. من هنا يبدأ الكلام على اختيار رئيس ماروني لجمهورية لبنان. فهذا المنصب هو في الوقت عينه منصب سياسي وروحي وثقافي وجيو- استراتيجي. ومثل هذه الصفات لا تجتمع في الساسة القصيري النظر بل في القادة الذين يتميّزون بالوعي والجرأة والرؤية ورهانهم لا يرتبط بالأمور العارضة بل بالمستقبل، مستقبل شعبهم ووطنهم والقائم على قاعدة اختصرها اللاهوتيون الموارنة بالقول: «إن المارونية هي مشروع حرية رمزها لبنان».

 

(*) باحث في الفكر الجيو سياسي