ليس اللقاء السعودي التركي خياراً، بل واجب وضرورة.. بل هو في واقع الحال، والحروب والفتن والاستهدافات التي تتعرض لها المنطقة وشعوبها، أولى الضرورات وأبوها وأمها وكل سليلتها الكريمة.
قيل الكثير سابقاً عن تمايزات بين هاتين الدولتين الأكبر والأهم على المستوى الإسلامي الإقليمي، في شأن قضايا مهمة وراهنة، ومنها الوضع المصري وبعض تفاصيل النكبة السورية.. كما لا يُخفى على كثيرين، وجود بعض الالتباسات التنافرية المسجّلة في السياق الطويل لتاريخ العلاقات البينية. غير أن ذلك كله، في جملته وخلاصته، يبقى غير ذي شأن يُذكر، إزاء ما يحصل راهناً، وإزاء الأبعاد الاستراتيجية للحروب الدائرة، من اليمن إلى العراق إلى سوريا (خصوصاً).
لم يسبق أن تعرض الطرف العربي والإسلامي الأكثري لهذا الكمّ من التحديات والافتراءات والاختراقات والاستهدافات.. منذ النكبة الأولى في فلسطين حتى النكبة الثانية (والأكبر!) في سوريا. ولا يمكن لمدّعٍ أن يدّعي أن الضحية هي المرتكبة! أو هي «المسؤولة» عن تفعيل عوامل الفتك بها! وحده، مستر أوباما يعزف على ذلك الوتر، ويصدَح بالقرب منه، واستفاد من نغماته، كل من له غرض ومَرض في المنطقة وشعوبها.
أطلق الصهاينة الأوائل حملتهم اللصوصية في إطار جغرافي محدد هو فلسطين التاريخية، واستهدفوا الفلسطينيين لكونهم أصحاب الأرض والحق والتاريخ، وركّزت حملات النفخ والاستنفار والتعبئة والتعمية الإسرائيلية المدعومة من مراكز القرار الغربي ومن البيئة الفكرية التي انطلقت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مركوبة على الدوام بعقدة التقصير إزاء اليهود.. ركّزت على الهوية «العربية» للفلسطينيين، ليس لأنهم عرب فقط، وإنما لكونهم الأساس في الاستهداف المبني على نظرية أن لا شيء في التاريخ اسمه فلسطين، وبالتالي لا شعب يكُنى بها!
.. لكن لم يجرؤ ذلك الضخ الأسطوري مرّة على التعرّض للقيم الإسلامية في عمومياتها.. لأن أصحابه لم يشأوا جعل النزاع دينياً من جهة، ولأن التاريخ ليس قابلاً للتزوير والفبركة من جهة ثانية.. وهذا التاريخ يحكم للمسلمين وليس عليهم، من الأندلس إلى اسطنبول إلى كل الحواضر العربية التي لم «تنتبه» إلى «المسألة اليهودية» قبل العام 1948! بل الواقع يقول إنه باستثناء المرحلة الدعوية الأولى في يثرب (المدينة المنوّرة)، لم يشهد التاريخ الإسلامي، خصوصاً العربي منه، استهدافاً إبادياً أو إقصائياً لا لليهود ولا للمسيحيين، بل المفارقة أن هؤلاء كانوا أقل تعرّضاً من غيرهم، عرب وعجم، لتبعات وظروف وشروط الدعوة في مطالعها!
ليس من المبالغة في شيء الافتراض أن اللحظة الراهنة من تاريخ هذه المنطقة وشعوبها وأقوامها، هي الأكثر حدّة وصلافة وافتراء: الاستهداف الذي يطال مكوّناتها مركّب على سيبة شديدة التعقيد، لكنها لا تكتفي بالسياسة ولا بالجغرافيا ولا بالحرب وأدواتها، وإنما تتصل بالعمق العقيدي، وتحاول النيل منه بعد تضخيم مثالبه النصّية والعملية ومحاولة جعل الفرع هو الأصل والهامش هو المتن! والخطأ العابر خطيئة دائمة!
تقود إيران ذلك الاستهداف وتلك الاستباحة ولأسباب تتصل بها وبنظرة قادتها إلى دورها وإمكاناتها.. وهي انطلاقاً من ذلك الجزء الغريب والعجيب تضع المذهب في محل الطائفة، والقومية في محل الأمة، وتذهب في الغلوّ إلى مراتب غير مفهومة… كأنها تنتقم من التاريخ وحوادثه الجسام، ولا تسأل عن التبعات الكارثية. وخلاصة ذلك أنها أنتجت ورعت وسقت كل بذور الفتنة المذهبية! وفتحت الباب أمام العنصر الخارجي للتدخّل بالطول والعرض. وفي كل تفصيل ممكن، خصوصاً في النكبة السورية، بعد أن استقرت على انقسامات العراق، ولعبت على النسيج اليمني المتشظّي، وحاولت مد يدها إلى التركيبة البحرينية الدقيقة، مثلما حاولت اللعب بالنسيج الكويتي، والتطاول الدائم على المملكة العربية السعودية في البيان والميدان، ومن دون أي ضوابط بما فيها النصّ المقدّس الذي يحدد معنى الحج وأهدافه وشروطه وأبوابه وتفاصيله وحرمته الأبدية!
.. اللقاء السعودي التركي هو أول شروط بناء معادلة موازية لكل ذلك الصلف الإيراني، مع أن الوضعية المثلى لا تكتمل من دون مصر ودورها الغائب أو المغيّب! وللحديث صلة!