نشأ جيلنا على خليط من المؤثّرات، أكثرها رومانسي. كان النتاج الأدبي والفكري والفني والموسيقي، آتياً من الحرب العالمية الثانية، حاملاً معه كل تأثيراتها، بعيدة أو قريبة. في فرنسا، ظهرت الوجودية، كموجة حياتية عبثية أكثر منها فلسفية، وتطورت إلى أنتي – إيديولوجية، تحتفي بهزيمة الفاشية في أوروبا. وبسبب الرماد الذي خلّفه الفاشيون، انضمّ 70% من العالم إلى اليسار، سوفياتياً، صينياً، فوضوياً، تروتسكياً، وما إليه.
كانت أميركا هي المنتصر الأول، ليس بقوّتها العسكرية، بل بالقوى التي عرضتها بعد الانتصار: المال والصناعة والسينما واستقبال ملايين المهاجرين المعوزين كل عام. ومن خلال هذه الطاقات، رسمت لنفسها الصورة المكبّرة بالألوان و”السينما سكوب”. تمتّعت الأذهان الشابة بمشاهد البراري الشاسعة، وصفّقت لجون واين وكلارك غيبل وغاري كوبر، يحصدون الهنود الحمر من أعالي الجبال. وتاهت العيون المراهقة خلف مارلين مونرو تحارب سيول الشلال المتدفّق على مركبها الخشبي المحطّم في “نهر اللاعودة منه”.
كان كل ذلك “سينما”، وكان جميلاً. وقع الخلل في المجتمع العالمي، عندما صوّرت هوليوود، الحرب العالمية على أنها مغامرة ساحرة. كانت مدينة السينما والخيال قد احتضنت كبار أهل الفن المهاجرين من أوروبا: المخرجون من شرقها، وألمع الوجوه من إنكلترا، غاري غرانت، لورانس أوليفيه، وجون جيلجود، وعبقري الفقراء شارلي شابلن. أسماء لا تُحصى. نصف الأسماء اللامعة كانت من الخارج، إما عبر الحدود من كندا وكوبا والمكسيك، أو عبر الأطلسي.
صوّرت هوليوود تدمير أوروبا وإحراق آسيا على أنه رحلة مريحة على الشاشة. كان أرنست همنغواي كبير كتّاب تلك الصناعة، فلم تأخذ منه سوى حكايات الغرام والنهايات السعيدة “والشمس تشرق أيضاً”. وفي استقبالها آفا غارنر أو صوفيا لورين أو جينا لولو بريجيدا. اختَر.
لم يكن في الفيلم المحدود الزمن، الوقت الكافي لكي تبلّغ أن قبل ذلك كان هتلر قد رمى “عصبة الأمم” من النافذة، ثم اكتسح بلاد السار، ثم مزّق معاهدة فرساي، ثم عقد حلفاً مع بريطانيا نتيجته أضخم أسطول أوروبي، ثم اكتسح بلاد الراين، ثم النمسا، فيما كان حليفه موسوليني قد سبقه إلى أثيوبيا، وحليفه فرانكو قد انتصر في إسبانيا، واليابانيون قد احتلّوا جزءاً من الصين، وما لبث الفوهرر أن بدأ الطريق نحو بقية العالم من براغ. و”من هنا إلى الأبدية”.
اعذرونا على كل هذا الغرف من السينما، وعذراً خاصاً من الذين لا يعرفون تلك الملاحم الفنية. ضرورات المقال. “من هنا إلى الأبدية” رائعة بالأسود والأبيض، لم تُنقل عن رواية من روايات همنغواي، بل من قصة وضعها جيمس جونز. في تلك القصة، الجندي ليس بطلاً يحصد الأعداء، بل خائف يريد الحياة. وعازف جاز حزين، مثل أغنية صالح عبد الحي “ليه يا بنفسج بتبتهج وانت زهر حزين”. وتقرأ، رجاء، باللهجة المصرية، خوفاً عليها من “الكليبات”.
انقسم العالم عشية الحرب بين استرضائي، وخائف، وثرثري يكرّر أقوالاً لا يعرف ماذا تعني. ظنّ “المحايدون” أن الحرب مجرّد خُطب تُلقى، وليست ملايين الجثث التي سوف تُرمى على الطرق وتحت الركام، وأن قارة سوف تدمّر بكل حضارتها وصناعاتها وتقدّمها. الأيام الأخيرة في برلين لم يكن حدَثها الأهم انتحار هتلر في “بنكره” تحت الأرض، بل آلاف الألمانيات اللواتي اغتُصبن عند زوايا الشوارع، بناء على أوامر ستالين لجنوده: افعلوا بنسائهن ما فعله رجالهم بأرضنا!
لكي نعرف ما هي الحرب لا تُشاهد عيني آفا غاردنر، بل تقرأ الأيام الأخيرة في برلين كما رواها بسطاؤها: الجنود السوفيات من ناحية، ومن ناحية أخرى ضباط “الصاعقة” يقتحمون البيوت عنوة بحثاً عن يافعين هربوا من القتال: من يمتنع يُقتل فوراً، من يتستّر على متهرّب يُقتل. شوارع برلين مليئة بالجثث المتحلّلة، ولا وقت إلا لإحراقها. لا وقت للحزن والبكاء والعزاء. فالجرذان قد تملأ الركام طاعوناً وموتاً أسود فوق جميع أنواع الموت الأخرى. لا وقت للإنسان.
حاوِلوا أن توقُفوا هذا الجموح نحو القتل والموت. الحرب ليست فيلماً منقطع النظير. وإن لم يكن رحمة بأطفالنا الذين يولدون لا مكان لهم في أي حال، ولا مدارس، ولا بيت، ولا عمل. فرحمة بحضاراتنا. رحمة بالحجارة، فالإنسان لا مكان له. العربي هو الكائن الوحيد الذي، منذ هيروشيما، مات مرشوشاً بالسمّ مثل البعوض في سوريا والعراق. لا مكان له حياً. لا عمل، ولا وظيفة، ولا حرية، ولا أمل، ولا رحمة. له مدافن البحر، وخِيام العَراء، والبحث عن بقايا الطعام في القمامة مثل القطط. إذا كان سعيد الحظ. وله نداء واحد هو القتل، ووعد واحد هو الموت.
نحن أوروبا الثلاثينات. الناس تمشي في جنازاتها وتصفّق. ثم فجأة ترتدّ الناس على موسوليني وتعلّقه على شجرة كما عَلّق يهوذا نفسه. ولكن بعد ماذا؟ المسيح قد صُلب، وأوروبا ركام تُغتصب نساؤها عند زوايا الشوارع. أمام المارة.
يقول مؤرّخ الحرب الثانية، أيضاً جيمس جونز، إن كل فن في الحرب يتحوّل إلى بروباغندا. ما من دولة تريد تصوير القباحات كما هي: “إذا كنا نريد أن نصدّق صناعاتنا، فإنه لم يشعر أي جندي بالمرارة أو الخوف. حتى الموت الذي نصوّره هو موت جميل، نقيّ، نظيف. لم يتغيّر هذا الأمر إلا مع حرب الفيتنام”. استحال على السينما أن تمضي في تصوير الموت عملاً جميلاً.
“السينما” الداعشية أكثر واقعية. الحرب رؤوس مقطوعة، وخطف، وكهوف وسبايا. الجنة لاحقاً، ووكالتها حصرية. عندما نحصي الأعداد ونصنّف الأرقام، بين قتل جميل وموت خسيس، سوف تتجمّع لنا حرب عالمية صغيرة. ميني كونيّة. منذ حرب العراق – إيران، إلى حرب العراق – العراق، إلى حرب لبنان، إلى حرب الجزائر، إلى حرب سوريا، إلى اعتزار إيران ببلوغ المتوسط والالتفاف على البحر الأحمر، يمكننا، ببساطة، تجميع ما محصوله حرب كبرى.
يقال إن السودان عربية لدرجة لا يمكن اعتبارها أفريقية، وأفريقية لدرجة لا يمكن اعتبارها عربية، فهل تحسبها علينا أيضاً؟ هي وحرب الجنوب، وحروب الجنجاويد في دارفور، والمجاعات عبر العقود، أي منذ سقط الحكم بالاقتراع إلى الوصول إلى الحكم بالاستفتاء. في الماضي كان الماريشال عمر البشير يستعين، على تأكيد نزاهة الانتخابات، بحضور الرئيس جيمي كارتر. لم يَدْعه في انتخابات نيسان، ولذلك سببان: الأول، لم يعد كارتر قادراً على السفر الطويل. الثاني، لا تزال إفادة الانتخابات السابقة سارية المفعول.
يكاد المرء يقول إن الحرب العالمية الثانية لم تشرّد من الناس ما شرّدته حروبنا الفاحشة. العراقيون ينامون على أبواب بغداد وكأنها عاصمة شعب آخر. والسوريون على أبواب الله، وفي كل دياره. وعلي عبدالله صالح يُطارد اليمنيين من صنعاء إلى عدن: بطل الوحدة يقسّم الجيش ويختطف الألوية ويشتّت القبائل خلف فقرها ومجاعاتها. هل تأمّلتم هذه اللوحة في نشرات الأخبار: اليمني يُقاتل بثوب مرقّع من عُمر بلقيس، وشريط الرصاص المتدلّي من رشاشه يساوي راتب سنة كاملة. ما الذي يريده علي صالح من الزحف على عدن؟
لم يُعرض على هذه الأمة، منذ استبدال الدولة بالنظام، والوطن “بالثورة”، سوى مشهيات الموت وطيبات الطوع. كان التعليم في يد طه حسين فصارت الجامعة فرعاً للمخابرات. يقول آرثر كوستلر إن المهمة الأولى التي أُوكلت إليه في الحزب الشيوعي الألماني كانت التجسّس على رفاقه وأصدقائه. وتقول “در شبيغل” إن “داعش” تحاول نسخ “الشتاسي” من ألمانيا الشرقية. لا أحد يتعلّم الأمثولة. لا من الاتحاد السوفياتي ولا من دوَله السابقة. القمع والعنف والخوف لا يصمد ولا يدوم. عاش رستم غزالة مُرعباً ومات مُرتعداً. ارتاح في أيامه الأخيرة بأن فقَد وعيه ولم تعُد تمرّ به صوَر ضحاياه، ولم يعد يلازمه صدى صوته وهو يُمطر معذّبيه وأصدقاءه وضيوفه بالإهانات والشتائم والتقريع. دخل الغيبوبة من غير أن يتسنّى لأزلامه في لبنان، أن يعرضوا معاً ذكرى ما قدّموه من أعراض وخدمات وجبايات، كما كان يُفاخر دائماً أمام زوّاره، وفقاً للأستاذ حسن عليق في “الأخبار”. كان وداعه شامتاً وصامتاً في كل مكان، أصدقاء وضحايا وأعضاء في الشبكة التي يبدو أنه اختنق بحبالها.
تُرك لعائلته أن تُعلن نبأ موته، الذي بدا هو أيضاً فظاً وقاسياً وله روايات شتى. ولن يعرف زوّاره الدائمون في “البوريفاج” أين يقدّمون مشاعر الفقدان. تلك هي بيروت، التي تدلّل متصرّفيها بسهول من الورد، ثم تتوارى إذا كانت الجنازة محظورة، وحضورها خطرا. تلك هي بيروت، حفلة الاستقبال الدائم، ومائدة المغريات، ومشكاك الهدايا، وشاهدة الزور. وفجأة تفرح صامتة في داخلها لأن جامع الوثائق غاب قبل حتى موعد التقاعد الرسمي. ثمة نوع من السلوك لا تقاعُد فيه.