سماحةُ الكريم، أمين عام «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم،
أمّا بعد،
فإنّ في هذا الزمان لَعِبرة لأُولي البأس الشديد أُولي الألباب، ولا يستقيم بأس بلا ألْباب تحدّد الخيارات وتطرحُ الأفكار ويمشي أصحابُها على الأرض بثبات..
من حقّ الناس، بخاصةٍ في البيئة الحاضنةِ المقاومةَ أن تَكبُر بثلةٍ من الأبطال عباقرة القتال على حدود لبنان الجنوبية الذين منعوا العدوّ الجرّار على مدى أكثر من ستين يوماً من احتلال مدينة واحدة مثل «الخيام»، في حين سقطت سوريا بجيشها ونظامها وجغرافيتها وقضّها وقضيضها في العالَم المعاصر في أسبوع واحد، ومن حقها أن تستغرب وتتساءل وتفكّر وتتهم وتطلق العنان لمخيّلتها في كيف جرى ما جرى، ومَن هم اللاعبون الواضحون والخفيّون في آن معاً الذين مهّدوا الأرض.. والسماء لانقلاب الوضع السوري رأساً على عقب. والسؤال الأكبر هو ماذا بعد؟
أعرف ويعرف جميع من يعرفكم كمقاومة أن المقاومين الذين يقبضون على الزناد درءاً لأي خطر محتمل من جيش إسرائيل، أصبحت يدهم الثانية خالية من اليقين بأنّ العمق الاستراتيجي لهم في أمان.
وأعرف ويعرف جميع من يعرفكم كمقاومة أن حساباتكم التي كانت تجعلكم درّة التاج في «محور المقاومة» هي الآن في غرفة العناية الفائقة بسقوط النظام في سوريا حليفكم وشريانكم الحيوي، وبانكفاء الدور الإيراني إلى مرتبة ترتيب الانزلاق لا مَنعه، بعدما بات مستحيلاً الدفاع عن نظام لا يدافع عن نفسه وأرضه وشعبه بعكس ما فعلتم أنتم في لبنان حيث دافعتم وحفظتم ترابكم وأهلكم ولو بأثمان جاءت فوق الخيال. لكنْ والواقعية تقتضي القول إن ما كان يبدو قبل أيام أثماناً باهظة، تحديداً في أعداد الشهداء الهائلة الذين انبَرت قُراهم وبلداتهم ومدنهم إلى احتضانهم الأخير، بدَت هيّنة على البيئة الحاضنةِ المقاومةَ وهي تراقب المشاهد السورية وسقوط المحافظات المترامية كورق الخريف. ورأت هذه البيئة بأمّ العين والقلب أن مَن استشهد اليوم دفاعاً عن الأرض والعرض، كان في أقدس الحروب. وإذا كان لبعض المعنيين مباشرةً «بالمحور» أن يحفظوا أنفسَهم وبلادهم عن طريق إبعاد الخطر لا مواجهته، فإنّكم حفظتم أنفسكم وبيئتكم باقتحام الخطر، وقدّر لله لكم ولنا ألّا نكون اليوم أمام الوحش نتنياهو وجهاً لوجه تسلّطاً وعنجهية على ضفة الليطاني.
لكنْ يا شيخنا الحبيب،
إن هذه البيئة التي خرجتم منها وتعاملتم معها كالأهل تماماً طوال ثلاثين عاماً وأكثر، باهتمام متميّز قبل الحرب، وخلالها، تبدو بعد الحرب على شَفَا مصيبة حقيقية هي كيفية تدبّر أمورها وتسوية أوضاعِها والعودة إلى حياتها الطبيعية وهذا لن يكون من دون تركيزكم الفعلي واليومي عليه. سأكون غافلاً عن الواقع وبعيداً عن مكّة التي هناك من هو أدرى بشِعابِها إذا اعتبرتُ الموضوع سهلاً عليكم، غير أنّ الحاجة الملحّة والضاغطة على السواد الأعظم من متضرري الطائفة في الجنوب والبقاع والضاحية تدفعهم إلى النظَر في أحوالهم الخاصة بصورة عاجلة. ومَن جَرجَرته الحرب في النزوح واستئجار البيوت وتأمين متطلبات عائلته وأهله، وصرَفَ مدّخراته عن بكرة أبيها لا يستطيع الانتظار طويلاً حتى يأتيه التعويض الذي شرحتم تفاصيلَه الدقيقة مشكورين، ولم تكن أرقامه مقنعة تماماً تبعاً لما تعرفونه عن موجة الغلاء الفاحش واستثمار التجار، كل التجار بلا استثناء إلّا من رحِمَ ربي. غلاء في الأسعار يكاد يقضي على ما قلتم عن تعويضٍ… عبرَ أثمانِ زجاج تحطّم وأثاث تهشّم فقط، فكيف بالذين تدمّرت بيوتهم ولم يبقَ لهم شيء؟. وهؤلاء كما نعلم لهم تدبير خاص، صحيح أنه يتطلّب وقتاً كافياً لإحصائه، لكن لا يجوز التباطؤ في البتّ به نظراً لأن الإيجارات نار لهّابة بلا ضمير يردع ولا أخلاق تنفع، والحياة كلها باتت جمراً تحت الرماد.
وقد تردّد يا سماحة الشيخ أن البدء بتقديم التعويضات لن يكون قبل نهاية الشهر، ما سيؤدي إلى تفاقم غضب الناس المفجوعين بمنازلهم وضحاياهم معاً، وإلى وضع أنفسِهم في ثلّاجة الوقت، وهم بالكاد خرجوا بعافية نفسية من جحيم الحرب. وليس منطقياً الانتقال من الجحيم إلى الثلّاجة، وكل شيء ما يزال إلى الأرض، الناس والبيوت وأكاد أقول المصير.
سماحة الشيخ الكريم،
الهموم الكبرى، والبحث في المصير، والانتباه إلى الساحة السورية التي تتوجَّسون من مآلاتها، والتفكّر في حال المنطقة العربية ككل، وعلاقتكم بإيران، لا يجوز أن تصرف أنظاركم عمّا بين أيديكم وهو بيئتكم المؤيدة التي حمَيتموها وحمَتكم طويلاً. أما إذا كانت الأمور ستأخذ وقتاً أبعد، على طريقة تعويضات الحكومة اللبنانية عادة، فإن أحداً من الناس لن يمكنه ترقيع منزله ونوافذه وأبوابه وأثاثه ولن يستطيع السكن لا في منزله الخاص ولا في الاستئجار، قبل أشهر يُفترض أن يبقى فيها رهينة حاجةٍ وفوضى وعدم استقرار، وهذا ما لا ترضونه، وقبلكم لا يرضاه لله لبيئة قدّمت أغلى ما عندها من دون تأخير، فإذا جاء وقت الردّ فُرض عليها التأخير.
وهذا الجانب الموضوعي الحياتي الخاص بالمواطن، يوازيه جانب آخَر عنده يتجاوز الخاص إلى العام الكبير ويتلخص في سؤال: إلى أين؟
نعرف أنه لا جواب جاهزاً في الحاضر، وأن المرحلة ملآنة بالأسرار السياسية التي لن تنكشف في قريب عاجل، لكنّ ثمة إشارات تنبّهنا إلى أن المقبل من الأيام قد يحمل ما هو فوق المفاجآت التي بدأت بالظهور بعد الأسبوع الأول على نجاح المعارضة السورية في القبض على سلطة الرئيس بشار الأسد!
يتحدّث بعض المتفائلين أن الأمور ستأخذ منحىً طبيعياً دستورياً وحكومياً وبرلمانياً في سوريا.. ويتحدّث المشككون عن أن سوريا ستكون ليبيا ثانية تضيع فيها الرؤوس.. ويتحدّث آخرون عن أن الشرق الأوسط سيقع في مثلّث بيرمودا الجديد: تركيا/إيران / إسرائيل.. وسنفتش فيه طويلاً عن العرب والعروبة بلا جدوى!
إنها المتاهةُ يا سماحة الشيخ، فلا تجعلوها على ناسِكُم أطول وأصعب وأعمق!