ثورة المناطق اللبنانية، الواحدة تلو الأخرى، ضد تصدير النفايات الصلبة إليها أدّى، حتى الآن، إلى فشل جهود وزارة البيئة لاستيعاب مشكلة النفايات خلال ما تسمّيه «المرحلة الانتقالية». ولا يستبعد أن تقوم انتفاضات مماثلة في بعض المناطق عند وصول خطّة النفايات إلى مرحلتها النهائية، فيمنع المتعهدون الجدد من طمر النفايات في هذه المنطقة أو تلك.
عكار وكسروان والنبطية وصيدا وإقليم الخروب والبقاع الغربي، وسواها، ناهيك عن الناعمة والشحار، شهدت كلها «عاميّات» غاضبة تهدّد بالويل والثبور إذا جرّبت الدولة توريد النفايات إليها. هذه الانتفاضات المتنقلة تهدّد بجعل موضوع النفايات مشكلة غير قابلة للحلّ، ونارا تغور تحت الرماد، حينا، ثم لا تلبث أن تلتهب من جديد.
ما سرّ هذا الغضب العارم وما هي أسبابه وخلفياته؟ سؤال لم يطرحه أحد خلال الأزمة، مع أن الإجابة عليه تكشف بعدا للمشكلة بقي، حتى الآن، بعيدا عن الأضواء.
في ذهن الناس أن الطريقة التي اعتمدتها شركة «سوكلين» لدفن النفايات في مطمر الناعمة ـ عين درافيل تميّزت بالعشوائية والاستهتار، والتنكر للقواعد البديهية البيئية والصحيّة، فنشرت الأمراض ولوّثت الأرض والهواء والماء، وحكمت على العديد من المواطنين المظلومين بالموت. والصيت السيّئ لطريقة الطمر في الناعمة هو المسؤول عن رفض المناطق، تباعا، لاستقبال النفايات، وهو المسؤول بالتالي عن فشل خطط الحكومة لحلّ مشكلة النفايات الصلبة.
طريقة الطمر هذه ليست مخالفة للقواعد الصحية والبيئية المتعارف عليها عالميا وحسب، بل هي أيضا مناقضة للعقد الموقع بين شركة «سوكلين» ومجلس الإنماء والإعمار. ولكن الرقابة الصحيحة على طريقة الطمر غير ممكنة، لأن العقد بين المجلس والشركة مخفي وليس بمقدور أحد أن يطلع عليه، أمّا طريقة عمل الشركة فتتمّ في الظلام، من دون رقيب أو حسيب.
يفرض التشريع اللبناني تقييم الأثر البيئي لأي مشروع قد يهدّد البيئة، كما ورد في القانون 444 الصادر سنة 2002. وقد أورد المرسوم التنظيمي الذي يحدّد طرق إجراء هذا التقييم لائحة بالمشاريع التي تستلزم حكما تقييما للأثر البيئي، ومن بينها «إنشاء مراكز لإدارة ومعالجة والتخلص من النفايات الصلبة على أنواعها».
فهل يعقل أن تخضع مشاريع صغيرة ومتوسطة لتقييم أثرها البيئي ويعفى من هذا الموجب مشروع ضخم يعالج معظم نفايات الجمهورية اللبنانية؟
في العام الماضي عقدت مجموعة صغيرة من الناشطين والمتضررين من مطمر الناعمة اجتماعات لدرس الآثار المدمّرة على الطبيعة والإنسان جراء طريقة الدفن العشوائي للنفايات فيه، وبما يخالف العقد بين الدولة و «سوكلين»، وقرّرت المجموعة مقاضاة الدولة والشركة بعد حصولها على نتائج علمية أكيدة عن طريقة الطمر ونتائجها، والأضرار التي تلحقها بالطبيعة والإنسان. ونظرا للكلفة الكبيرة لهذا النوع من الدراسات، تلقت المجموعة نصيحة بالتريث لأن وزارة البيئة اتفقت مع منظمة الصحّة العالمية على تكليف فريق من الخبراء والمتخصصين من المنظمة بدراسة شاملة حول «التأثيرات السلبية للمطمر على الصحة العامة والبيئة».
بعد اجتماعه بفريق المنظمة الدولية، بحضور رؤساء بلديات وناشطين وممثلين لمجلس الإنماء والإعمار، في آذار من العام الماضي، صرّح وزير البيئة محمد المشنوق «أن الضرر قد وقع بسبب مطمر الناعمة، لكنه سيعالج، وجميعنا نريد أن نعالج هذه المشكلة».
انتظرت مجموعة الناشطين فترة من الزمن بانتظار إنجاز تقرير منظمة الصحّة العالمية، ولكنها اكتشفت أن الدراسة قد ألغيت بحجة عدم توفر الأموال اللازمة لها لدى الدولة!!!
هكذا نجت «سوكلين» ومعها مجلس الإنماء والإعمار، حتى الآن، من الرقابة والمحاسبة نتيجة الجرائم التي ارتكبت بحق الصحّة العامّة والطبيعة خلال الطمر العشوائي والتدميري لنفايات لبنان في المطمر المشؤوم. وبذلك طمست معالم الجريمة ودفنت أسرارها في باطن الأرض، لكن المهتمّين بالموضوع يعيدون الكرّة اليوم بإمكانيات ذاتية لمعرفة الأضرار وأبعادها وتقديم ملف علمي متكامل للقضاء.
مشكلة النفايات في لبنان، التي انفجرت في شوارع بيروت والمناطق، ونشرت القذارة في الطرقات والساحات والأزقة، وفي الجبال والوديان والمكبّات العشوائية، هي صورة مصغرة عن واقع لبنان ومجسّم لدولته وإدارته ونظامه السياسي. ففيها سوء الإدارة والتردّد والإهمال، وانعدام الرؤية وعدم استباق المشاكل الكبيرة قبل وقوعها. فيها أيضا تجارة سوداء وفساد على رؤوس الأشهاد، وتقاسم للمغانم على حساب مصلحة الوطن وصحة المواطن.