لم تكن الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للرباط زيارة عادية. قبل كلّ شيء اختار ماكرون، كما فعل جاك شيراك عند توليه الرئاسة في العام 1995 المجيء الى المملكة المغربية كمحطة أولى في زياراته المرتقبة لدول شمال افريقيا. كان جاك شيراك سياسيا فرنسيا واوروبيا يمتلك بعد نظر. هكذا يبدو أيضا ايمانويل ماكرون الذي هو في طور إعادة الحياة الى فرنسا وسياستها الافريقية معتمدا البوابة المغربية.
حظي الرئيس الفرنسي الجديد الذي مضى شهر فقط على دخوله قصر الاليزيه باستقبال استثنائي في الرباط وذلك خلال الزيارة «الخاصة» التي لم تستغرق اكثر من ثمانية وأربعين ساعة. كان خلف الملك محمّد السادس في مطار الرباط – سلا عدد من افراد العائلة، بينهم وليّ العهد الأمير الحسن بن محمد وشقيقه الأمير رشيد. كان كل شيء يدل على مدى تقدير المغرب لاختيار ماكرون زيارة المملكة قبل أي بلد آخر خارج أوروبا.
المهمّ في نهاية المطاف هو النتائج التي اسفرت عنها وستسفر عنها الزيارة. ما يمكن قوله انّ الرئيس الفرنسي ما كان ليفتتح زياراته غير الاوروبية بالذهاب الى المغرب لولا وجود قناعة قويّة لديه بضرورة تكريس وجود شراكة استراتيجية بين البلدين بعيدا عن ايّ نوع من العقد التي غالبا ما تحكّمت بالرؤساء الاشتراكيين مثل فرنسوا هولاند. شاء ماكرون وهو رئيس عصري على تماس مع ما يدور في أوروبا والعالم وفي محيط أوروبا، بما في ذلك الضفة الأخرى من المتوسط، تأكيد انّ البوابة المغربية ممر لا بدّ منه لافريقيا. بات على كلّ أوروبي عبور هذا الممرّ في ضوء الجهود الجبارة التي بذلها محمّد السادس من اجل إقامة علاقات من نوع جديد تقوم على المصالح المشتركة بين المغرب والدول الافريقية. توّجت هذه الجهود بعودة المغرب الى الاتحاد الافريقي، او بعودة الاتحاد الافريقي الى المغرب، وذلك في ظلّ قناعات مشتركة تبلورت من خلال الجولات الكثيرة التي قام بها العاهل المغربي، وهي جولات شملت بلدانا افريقية عدة في انحاء مختلفة من القارة السمراء واوصلته الى مكان بعيد مثل جزيرة مدغشقر.
هناك وعي فرنسي لوجود حال استقرار في المغرب. سمحت هذه الحال المغربية ببلورة سياسة واعية في افريقيا تستند الى الاستثمار في التنمية عبر مشاريع مشتركة تخدم قيام نوع جديد من العلاقات واسس للتعاون بين دول القارة. يحصل ذلك بعيدا عن الأفكار الاستعمارية التي تحكّمت في الماضي بالعلاقة بين الدول الافريقية والقوى الاوروبية. ما قام به المغرب يتمثل في بناء علاقات بين دول افريقية تخدم المواطن الافريقي. لعلّ افضل مثل على ذلك حرص المغرب على إقامة مستشفيات في البلدان الافريقية الفقيرة وعلى إقامة مصانع تستخدم الفوسفات المغربي لانتاج اسمدة زراعية، كما الحال مع اثيوبيا التي زارها محمد السادس في تشرين الثاني ـ نوفمبر الماضي.
هذا غيض من فيض ما قام به المغرب من جهود في افريقيا وفي منطقة الساحل من اجل قيام نوع مختلف من العلاقات والتعاون بين الدول الافريقية بعيدا عن الشعارات الفارغة والمزايدات التي لا معنى لها التي رفعها طويلا أولئك الذين أرادوا المتاجرة بافريقيا والافارقة.
الى جانب ذلك كلّه، جاءت زيارة ماكرون للرباط كي تعكس مدى الاهتمام الفرنسي بالتجربة المغربية في مجال الحرب على الإرهاب والتطرّف، بما في ذلك نشر الإسلام المعتدل وإقامة مؤسسات هدفها تخريج أئمة وخطباء جوامع افارقة يعرفون ما هو الإسلام الحقيقي كدين قائم على التسامح والاعتراف بالآخر.
لعب المغرب دورا محوريا في الحرب على الإرهاب في طول الساحل الصحراوي. صحيح انهّ كان يحمي نفسه من اخطار التطرّف ومن مجموعات على علاقة بكلّ ما هو مرتبط باثارة القلاقل والتهريب، مثل جبهة «بوليساريو»، الأداة الجزائرية المعروفة، لكن الصحيح أيضا انّه كان يستثمر في الوقت ذاته في تنمية القارة الافريقية. هناك رأي معروف للعاهل المغربي بان الحرب على الفقر جزء لا يتجزّأ من الحرب على الإرهاب والتطرّف. هناك اعتراف مغربي بوجود ترابط بين الدول الافريقية وبأنّ أي تطور في أي بلد افريقي تكون لديه انعكاسات إيجابية على البلدان الأخرى في محيط هذا البلد.
كانت حصيلة زيارة ماكرون للرباط اعتراف فرنسي بان التجربة المغربية تستأهل التوقف عندها. هذا لا يعني ان المغرب لا يواجه مشاكل. على العكس من ذلك، هناك مشاكل داخلية في المغرب. يكمن الفارق بين المغرب وغيره في ان الحديث عن هذه المشاكل لا يدور في الكواليس، بل هو حديث علني. لذلك تطرّق الرئيس الفرنسي في المؤتمر الصحافي الذي عقده بعد محادثاته مع محمد السادس الى ما يجري في منطقة الريف المغربي، في الحسيمة تحديدا، مشيرا الى انّه بحث في الموضوع مع العاهل المغربي.
ليس سرّا ان هناك اضطرابات حصلت في تلك المنطقة وان محاولات جرت لاستغلالها. سيتبيّن يوما بوضوح ما اذا كانت هناك اياد جزائرية متورطة في اثارة المشاكل في منطقة الريف. هناك تقصير حكومي وهناك تقصير من الأحزاب المغربية التي لم تتحرك في الوقت المناسب لوضع الامور في نصابها.
ما اكتشفه ماكرون ان المغرب بلد طبيعي يمرّ بتجربة خاصة به، خصوصا منذ إقرار دستور العام 2011 في استفتاء شعبي. الاهمّ من ذلك انّه واحة استقرار في شمال افريقيا وانّه تحوّل مع الوقت الى جسر يربط بين أوروبا وافريقيا. لا مجال للعودة عن الإصلاحات في المغرب. على العكس من ذلك، هناك نيّة في دفعها الى امام وجعلها تشمل كل القطاعات، بما في ذلك التعليم الذي هو في أساس تطوّر المجتمعات. لا يتردد الملك محمّد السادس في تنبيه المغاربة الى اهمّية اللغات الأجنبية واتقانها من اجل متابعة البحث العلمي. في كلّ مرّة يحل «عيد العرش» آخر تموز ـ يوليو من كلّ سنة، هناك اوسمة خاصة يمنحها الملك الى مواطنين متميزين، بمن في ذلك علماء كبار برعوا في مجال عملهم في داخل المملكة او خارجها او طلاب حصلوا على شهادتهم الثانوية بتفوّق.
يبدو رهان فرنسا على المغرب في عهد ايمانويل ماكرون رهانا في محلّه. الامل كبير في ان يساعد الرئيس الفرنسي الجديد في تخليص آخرين من عقدة المغرب ومن رهانات خاطئة على افتعال مشاكل فيه.
يتمثّل كلّ ما يفعله المغرب، الذي يعي تماما طبيعة المشاكل التي يواجهها ولا يخجل من الاعتراف بوجودها، في انّه يستثمر في الخير والتنمية والاعتدال وليس في البحث عن أدوار تفوق حجمه من اجل ادعاء بطولات وهمية من خارج هذا الزمن.
جاء رئيس عصري الى الرباط للاستفادة من تجربة لملك عصري عرف كيف ينقل بلده الى القرن الواحد والعشرين في ظروف إقليمية وعالمية اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها في غاية التعقيد.