ليس إطلاق المغرب لقمر اصطناعي يحمل اسم «محمد السادس» حدثاً عادياً. إنهّ اقتحام للعالم الحديث من بلد يعرف ماذا يريد في منطقة مضطربة. نجحت عملية إطلاق القمر بواسطة صاروخ انطلق من قاعدة في غوايانا الفرنسية. سيستفيد المغرب من المعلومات التي سيقدّمها له «محمّد السادس» في مجال تنمية ثرواته، خصوصاً الثروة الزراعية التي تُشكل احد أعمدة الاقتصاد المغربي. ستسمح الصور التي سيرسلها القمر بانتظام بتطوير الزراعة، استناداً إلى معلومات دقيقة عن طبيعة الأراضي الصالحة وكيفية ريّها وزيادة مساحتها. سيكون هناك مجال لوضع خريطة جديدة للأراضي المغربية تسمح باستغلالها بطريقة أفضل في مختلف المجالات، بما في ذلك الشواطئ. سيكون القمر الاصطناعي شريكاً في تطوير الاقتصاد المغربي من زوايا عدّة مع الأخذ في الاعتبار تطور المدينة المغربية والتجمعات السكانية في مختلف أنحاء المملكة.
ليس سراً أيضاً أن الصور التي سيرسلها القمر ستُساعد في حماية المغرب أمنياً نظراً إلى أنها ستسمح بمراقبة الحدود بطريقة أفضل والكشف الباكر لأي تهديدات للأمن الوطني. إضافة إلى ذلك، ستتيح الصور التي يُرسلها القمر مراقبة أفضل لأي أعمال غير شرعية على الشواطئ.
لا يمكن الفصل بين إطلاق القمر الاصطناعي عن التطور الذي يشهده المغرب على كل صعيد، بما في ذلك الصعيد السياسي والاجتماعي وذلك منذ إقرار الدستور الجديد في العام 2011 وحتّى قبل ذلك عندما باشر محمّد السادس عملية تطوير المجتمع في اتجاه مزيد من الانفتاح والحداثة شملت المرأة وتمكينها من الحصول على حقوقها كاملة.
لم تؤدِ الإصلاحات السياسية التي توّجت بالاستفتاء على الدستور الجديد الغرض المطلوب وذلك على الرغم من حصول دورتين انتخابيتين في ظل هذا الدستور الذي استهدف تطوير الحياة الحزبية وتمكين الأحزاب المغربية من تحسين أدائها وأخذ المبادرة ومراقبة العمل الحكومي.
لم تستطع الأحزاب المغربية، للأسف الشديد، الارتقاء إلى مستوى الإصلاحات السياسية التي دفع الملك محمّد السادس في اتجاهها. لذلك كان «الزلزال السياسي» الأخير الذي استهدف إحداث صدمة على صعيد البلد كلّه من زاوية أن كفى تعني كفى وأنّ على كل مسؤول سياسي أكان في السلطة أو المعارضة تحمّل مسؤولياته بدل التلهي في المزايدات والمناكفات التي لا طائل منها.
يكشف إطلاق القمر الاصطناعي والأهداف من وراء إطلاقه أن القافلة المغربية تسير إلى أمام وأنّ لا شيء يمكن أن يوقفها. لن يوقفها تلهي الأحزاب المغربية بالصغائر والحسابات الشخصية بدل التركيز على كيفية تطوير الحياة السياسية والمشاركة في عملية التنمية وتطوير القطاع العام على غرار ما يحصل في القطاع الخاص.
لن توقف القافلة المغربية، طبعاً، الحملات التي تشنّها قوى خارجية تعتقد أن الهجوم على المغرب يُساعدها في الهرب من مشاكلها الداخلية. هناك مسؤولون جزائريون مثل وزير الخارجية عبد القادر مساهل ما زالوا يعتقدون أن التهجم بطريقة رخيصة على المغرب، عبر اتهام مصارفه بـ«تبييض» الأموال التي مصدرها تهريب الحشيشة عبر فروع هذه المصارف في أفريقيا، يُمكن أن يساعد الجزائر في شيء. لن يساعد الجزائر شيء سوى البدء بالتخلص من عقدة المغرب الذي استعاد وضعه في القارة عبر مشاريع مشتركة تصبّ في خدمة التنمية والمصلحة المشتركة.
لم يبع المغرب الأفارقة الأوهام ولا الشعارات الطنانة والفارغة التي اكتشفوا أخيراً أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر. على العكس من ذلك، بنى المغرب مستشفيات ومدارس وأقام مشاريع مشتركة تخدم الزراعة الأفريقية بفضل الأسمدة التي مصدرها الفوسفات المغربي. إلى جانب ذلك كلّه، يعمل المغرب من أجل مكافحة التطرّف والدفاع عن الإسلام المعتدل في كلّ أفريقيا. يساعد المغرب في تخريج أئمة مساجد يعرفون حقيقة الإسلام بدل الاستثمار في كلّ ما من شأنه زيادة التطرّف والاستثمار فيه كما يفعل غيره…
ليست عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي مجرّد عودة عادية بعد قطيعة طويلة بسبب وجود ما يسمّى «جبهة بوليساريو» في الاتحاد. كانت هناك في العام 2016 عودة لأفريقيا إلى المغرب الذي تحوّل إلى قدوة للدول الأفريقية الأخرى التي تسعى بالفعل إلى تطوير نفسها وخدمة شعوبها، بدل الغرق في متاهات من نوع تغطية الأطماع في أراضي الدول المجاورة بعبارات من نوع «حق الشعوب في تقرير مصيرها».
جاء إطلاق القمر الاصطناعي «محمّد السادس» تتويجاً لجهود دؤوبة جعلت من المغرب جسراً لأوروبا إلى أفريقيا. لا يستطيع المغرب البقاء بأي شكل على هامش التقدّم الذي تحققه الدول الأوروبية التي يمتلك معظمها أقماراً اصطناعية تُساعد في مسح يومي لما يدور على أرضها وكشف ما يمكن تطويره في هذه الأرض.
تكفي زيارة لطنجة هذه الأيّام للتأكد، مثلاً، من أهمية مشروع ضخم كميناء «طنجة – ميد» أي طنجة – البحر المتوسط الذي يعني وجود شراكة في العمق بدأت تتبلور بين المغرب والدول الأوروبية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، على رأسها إسبانيا.
في السنة 2017، يقف المغرب على قاعدة متينة وثابتة، داخلياً وعربياً وأفريقياً ودولياً. هذا ما سمح لمحمّد السادس أن يقول في خطاب ألقاه في الذكرى الـ42 لـ«المسيرة الخضراء» التي أعادت الصحراء إلى أهلها الحقيقيين: «إن المغرب ملتزم الانخراط في الدينامية الحالية للأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة بالتعاون مع مبعوثه الشخصي في إطار احترام المبادئ والمرجعيات الثابتة التي يرتكز عليها الموقف المغربي والمتمثلة بالأساس في رفض أيّ حل لقضية الصحراء خارج السيادة الكاملة للمغرب على صحرائه ومبادرة الحكم الذاتي الذي يشهد المجتمع الدولي صدقيتها».
لم يفت العاهل المغربي إعادة تأكيد «مغربية الصحراء» مشدداً على أنّها «كانت دائماً مغربية قبل اختلاق النزاع المفتعل في شأنها. وستظل مغربية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مهما كلّف ذلك البلد من تضحيات».
لا يطلق المغرب قمراً اصطناعيا ويضعه في مدار حول الأرض من باب الاستعراضات، بمقدار ما أنّه يفعل ذلك مستنداً إلى قاعدة ثابتة. يعرف المغرب ما يريد من القمر وكيفية الاستفادة منه. إطلاق القمر «محمّد السادس» حلقة من سلسلة حلقات متكاملة تصبّ في عملية بناء دولة حديثة في مملكة ذات حضارة قديمة وراسخة. من حسن الحظ أنّه لا يزال هناك عدد صغير من الدول العربية تحقق تقدّماً في هذه الأيّام العصيبة التي تشهد تفتت دول مثل ليبيا وسوريا والعراق واليمن.
ما سرّ المغرب؟ الجواب في غاية الوضوح والبساطة. هناك قبل كلّ شيء ملك متصالح مع شعبه يعتبر الفقر عدوّه الأكبر، كما يؤمن بالرهان على الإنسان المغربي قبل أيّ شيء آخر.