يكفي التمعن في صفوف الناخبين المحتشدين امام مراكز الاقتراع في انطلياس وقرنة الحمرا والدامور وترشيش وجونية وغيرها من انحاء جبل لبنان لكي يدرك المرء بسرعة حجم المأزق الذي تتخبط فيه المناصفة في بيروت. وتلك حقيقة لا لبس فيها ولا تحتمل اي جدل منطقي وعقلاني. وسلسلة العبر تبدأ من نسب المشاركة المرتفعة.
بكلام بسيط، تدفقت الحشود أمس الى مراكز الاقتراع لتبلغ عند الظهيرة نسبة 44 في المئة ليس اقتناعاً منها ببرامج اللوائح والمرشحين المملة في غالبيتها، بل لأنها تجد نفسها معنية بالاستحقاق وقادرة على التأثير في مجرياته ومساره وتالياً التعبير عن مواقفها وامنياتها المحلية وعلى مستوى القرية والبلدة . وفي قرنة الحمرا وقفت المرشحة الشابة المنفردة ريما جبر وحدها في مواجهة لائحتين قويتين تتنافسان على الفوز وحصدت عددا لابأس به من الاصوات . في حين، ان ناخبي بيروت وتحديداً المسيحيين يجدون “ان لا حول لهم ولا قوة” ولا قدرة لهم في التأثير على نتائج الانتخابات اياً تكن نسب مشاركتهم وتصويتهم لا لشيء الا لأن معدلات الانجاب لدى المسيحيين هي ادنى منها لدى المسلمين.
وهذا العنوان الواقعي يختصر ازمة الثقة بين الناخبين والاحزاب والتيارات السياسية في بيروت، ويفسر تالياً امر تلك الحشود التي تدفقت على مراكز الاقتراع باكراً وقبل القداس وبعده، وقبل الغداء وبعده وقبل غروب الشمس واقفال الصناديق. فالمواطن الناخب في جبل لبنان يشعر انه معني بما يجري وانه قادر. وتلك الديموقراطية ليست “مزحة” ولا كلاماً في الهواء بل هي تعبير حقيقي عن الارادة الشعبية وبأبهى تجلياتها.
العبرة الثانية، او الانطباع الثاني عن النهار الانتخابي الطويل، هوتراجع الاحزاب والتيارات السياسية امام الاندفاعة الانتخابية للمرشحين والناخبين الطامحين الى الفوز والتعبير عن موقفهم، والمسألة ليست سهلة البتة بدليل توزع مناصري الاحزاب على اللوائح يمينا ويساراً وفي البلدة الواحدة كما في مزرعة يشوع مثلاً حيث توزع مرشحو الكتائب على اللائحتين المتنافستين، وفي الدامور كان الامر اكثر اثارة مع تشتت مناصري الاحزاب على اللوائح المتنافسة، وكل يدعي ان الحق الى جانبه. وفي بكفيا بالذات وجدت المرشحة الى رئاسة البلدية نيكول امين الجميل لائحة من اربعة مرشحين تضم كتائبيين وقوميين ومستقلين تترشح ضدها وحدث كذلك عن باقي الانحاء. والسؤال الذي يجب ان تجيب عليه قيادات هذه الاحزاب هو عن مدى التزام مناصريها مشاريعها السياسية وتوجهاتها وكيفية التوفيق بين هذه الالتزامات وتوجهات الناخب المغايرة .
انطباع ثالث يتمثل في تلك القوة التي تظهرها العائلات في الانتخابات البلدية والاختيارية في قلب جبل لبنان، الذي يفترض ان مجتمعاته المحلية اكثر انفتاحاً وحداثة من المجتمعات الريفية في الاطراف، وذلك لاسباب عدة. لكن الامور على نقيض ذلك تماماً والاحزاب والشخصيات والمجتمع المدني برمته رضخوا لمنطق “انتخابات تنافس بين العائلات” حيث تنتعش العشائرية كلما دعت الحاجة، وتعود الى الظهور في شكل غير مسبوق جارفة معها البرامج التنموية والنهضوية لصالح التحدي بين العشائر، وما جرى في حمانا من اتفاق بين العشائر المارونية، وكذلك في عشرات المناطق والبلدات الاخرى ليس الا نموذجاً عن تركيبة المجتمع الريفي “المتمدن” بأشكال عدة في جبل لبنان.
عبرة رابعة، في ذلك الموقف “الودود” و “اللطيف” اذا جاز الكلام للقوى الامنية والعسكرية في حماية العملية الانتخابية والتدخل لاصلاح ذات البين بين جمهور الناخبين والمندوبين والمرشحين عندما كانت الامور تصل الى الاحتدام والتصادم. وفي تلك الوقائع، علامة جيدة تضاف الى سجل المؤسسة العسكرية الحامية فعلاً للسلم الاهلي والبلدي بين المواطنين المتوترين بحيث يمكن الكلام وحتى ساعة كتابة هذه الكلمات ان ضربة كف لم تسجل فعلاً.
مسألة اخيرة، يمكن احتساب او توقع نتائج الانتخابات النيابية في جبل لبنان، استناداً الى ما جرى اليوم في صناديق الاقتراع وهي تؤشر الى فوز ساحق للثنائية المسيحية اي “القوات اللبنانية” و “التيار الوطني الحر” في كل المناطق المسيحية رغم تقدم العشائر وانحسار الحزبية، والمسألة بالغة الدقة.