يصدمنا هذا التعامل البروتوكولي الدقيق وذلك الجدل الودود بين الولايات المتّحدة وروسيا حول مسألة اجتياز نهر الفرات في محافظة دير الزور. الدولتان المنسجمتان أضحتا تتقنان ممارسة التقيّة، فتقدّمان نموذجاً هادئاً لتوزيع النفوذ عبر توزيع الأدوار على المعسكرين العاملين لديهما، الأكراد من جهة، وبقايا جيش النظام وحزب الله من جهة أخرى. هندسة جديدة في العلاقات الدولية لا تتّسق مع النموذج التدميري الذي اعتُمد في كلّ من أفغانستان والعراق ولا مع الحرب الخاطفة على جورجيا وضمّ شبه جزيرة القرم. تقدّم هذه النماذج جميعها شواهد على البراعة الروسية والأميركية في تغيير مستقبل الكيانات وإن اختلف أسلوب العمل.
توزيع مناطق النفوذ في سوريا بدءاً من جنوبها، واستحداث مناطق لخفض التوتر مع كلّ جلسة تعقد في آستانا، بما يتماشى مع الأقليات المذهبية أو الإثنية في كلّ منها، والإستقدام الإنسيابي للوحدات الروسية والتركية إلى أرض المعركة، واستخدام الأكراد في القتال وتعزيز نفوذهم في الشمال السوري والإحجام عن دعمهم في المطالبة بكيان سياسي مستقل، بالإضافة إلى الحرص على ثبات وأمن الحدود العراقية السورية، يعني اعتماد المبادىء عينها التي قامت على أساسها معاهدة سايكس بيكو. رسم الحدود السياسية يأتي مجدداً حصيلة توافق وتفاعل وتنافس بين قوى دولية مع فواعل محليّة وإقليمية. ولكن الحرص هذه المرة سيكون في عدم ترك مساحات دون تبعية واضحة لتفادي الثغرات السابقة.
لقد عاشت سايكس بيكو في ذاكرتنا التاريخية العربية كأسطورة محبطة لم تقوَ الحركة العروبية والثورات على إلغاء أي بند من بنودها، مع إنّها كانت مجرد اتّفاقية لتصفية التركة العثمانية في المشرق العربي. كما لم تقوَ تلك الثورات على تجاوز مشكلاتنا المتّصلة بالهويات الإثنية والدينية الباحثة دائماًعن دول أحادية أو عن حماية. أسطورة سايكس بيكو وأسطورة إلغاء الخلافة ساهمتا في تهميش مفهوم المواطنة في وعي النُخب العربية ذات النزعة القوميّة كما النزعة الإسلامية وحالتا دون بناء دول وطنية حديثة.
تقف المنطقة على أبواب التجديد لسايكس بيكو، ربما لقرن جديد ولكن بقيادة أميركية روسية. القرن الجديد يستلزم تعديل ديناميات الهيمنة وإعادة النظر في الأوزان. صحيح أنّ هناك استحالة لتطبيق الخرائط التي روّجت لها التنظيمات الجهادية أو تلك التي أصدرتها مراكز الدراسات الغربية، وصحيح أنّه لا يبدو أنّ هناك إرادة دولية متحمّسة لتعميم الفوضى واللادولة والتقسيم والفدرلة، إلا أنّ أحداً لن يعترف لأي جماعة بأي كيان داخل الدولة أو على جزء منها، وربما سيجري التعامل مع الدول بوصفها دولاً فاشلة وليس بوصفها لا دولة. فمع تصدّع خرائط سايكس بيكو تشهد المنطقة حنيناً مضطرداً إلى الإستعمار.
يتساءل روبرت لانسينغ وزير الخارجية في إدارة ويلسون في مذكراته: «عندما تحدث ويلسون عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، أي وحدة شعب تلك التي فكّر بها؟ أهي وحدة عرق، أم مساحة معينة من الأرض، أو جماعة معينة؟ إذا لم نحدّد هذه الوحدة، فإنّ تطبيق ذاك المبدأ خطر على السلام وعلى الإستقرار» ويضيف:« كلما فكّرت في إعلان ويلسون، ازددت إقتناعاً بخطر غرس هذه الأفكار في رأس بعض الأعراق».
في ظلّ شروط الهيمنة الجديدة، ومهما بلغت لعبة المفاوضات والمعاهدات من إتقان، تبقى القوى المجتمعية قادرةً على التغيير أو تعديل هذه الشروط. القرن العشرين بدأ بالمسألة الشرقية وانتهى بالدولة الفاشلة، فهل ثّمة فرصة لكي تقول المنطقة شيئاً. يقول الكاتب السوري الراحل هاني الراهب على لسان أحد أبطاله الروائيين: « أنا أرتجل قصصي لكي أرتجل وجودي». مئة عام مضت على تأسيس الشرق الأوسط المعاصر، بقصصه وسرديّاته التي لا تنتهي فهل حان الوقت لكي يرتجل هذا الشرق وجوده ؟؟؟