حيثما كانت هناك «دولة» على امتداد هذا العالم الفسيح، ذات أسس سليمة تقوم على قواعدها ممارسة ديمقراطية تكاد أن تكون مكوناتها ممتزجة بعروق الوطن ودماء المواطنين، تُقاد البلاد من خلال مسارات قانونية ودستورية أفرزتها أجيال متعددة وحضارات وثقافات متراكمة، يتكون منها جميعا نهج له مكانته وحرمته وقدسيته، وتقوم قيامات الوطن بأسره اذا ما داخله خلل أو شطط أو انتهاك.
حيثما كان، هذه هي الحال، إلاّ في الدول المتخلفة، ويبدو أن لبنان، مع غاية الأسف، قد بات في طليعة تلك الدول، التي انفردت «ديمقراطيتها» بسلسلة من التمديدات البرلمانية المخالفة للدستور، وصولا إلى تعليق انتخابات رئاسة الجمهورية لما يناهز العامين، والعبث بتشكيل الحكومات من خلال العرقلة لأشهر تطاول السنة، ومن خلال تجزئة مبدأ وحدة الحكم وسيادة الدولة الواحدة، إلى دولتين، واحدة منهما شرعية في شكلياتها وأسسها الدستورية، وهي ما نُطلق عليه نحن معشر اللبنانيين تسمية الدولة الشرعية والدستورية، وثانيهما دولة دخيلة على مسالك الحياة العامة ويطلِقُ عليها معظم اللبنانيين تسمية الدويلة، وآخرون يضعونها في موقع مغتصب السلطة العامة وبشكل خاص المغتصبة لمفاتيح القرار الوطني والدستوري والقانوني والمتحكّمة بمقاليد الأمور في كافة المجالات، الأمني والعسكري منها على وجه الخصوص، حتى أن هذه «الدولة- الدويلة» قد تَضَخّم حجمها وفائض القوة لديها إلى حد لم تعد مساحة وقدرات وتطلعات لبنان «المتواضعة»، تتسع لها ولاستهدافاتها، إلى درجة انطلقت فيه قواها المسلّحة، ليس إلى الجارة سوريا فحسب، بل وصلت إلى أكثر من دولة عربية، متفاوتة في القُربِ والحجم والأهمية، بحيث بات اللبنانيون مهدّدين إما بالخضوع إلى دويلة جذورها ومبادئها وخياراتها تنبع من إيران ويصب نتاج أعمالها وافعالها في صلب المصلحة الإيرانية، وإما أن يتعرض لبنان، وطنا وبشرا وحجرا، إلى الويل والثبور وعظائم الأمور من خلال السلاح المادي والمعنوي المصوب دوما على مواقعه ومواقفه وديمقراطية وحرية قراراته. ولا ننكر أن لبنان، ممثلا على وجه الخصوص بفئاته الرافضة لمواقع الفرض والإكراه الذي يجير أوضاعه العامة لسياسات غريبة بعيدة عنه كل البعد أصلا وفصلا ومحتدا وتطلعات وطنية وعقائدية. أمّا لبنان «المنحاز» إلى دولته وشرعيته فقد توصّلت فئة من أبنائه إلى اعتبار أن وضعية المهادنة وتهدئة الأوضاع واللجوء إلى ربط النزاعات في القضايا المختلف عليها وإلى حلّ الخلافات القائمة عن طريق الحوار وإرجاء القضايا المستعصية إلى وقت يمكّن التلاقي فيه مع الآخرين، وقد كان هذا الإعتبار في وقت ما إختيارا معقولا يتسم بالحكمة والواقعية ومعالجة معضلاته وعثراته لا تقوم إلاّ من خلال التلاقي في أنصاف الطرقات الوعرة، الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى التوافق على انتخاب الرئيس عون بعد طول تعثّر وعرقلة وانتظار، وقد جاء انتخاب هذا الرئيس «القويّ» حلّاً مكّن اللبنانيين ولو إلى حين، من استعادة الأنفاس والأمل في إعادة البلاد إلى سكّة الإنقاذ والخلاص، وجاء هذا الإنتخاب متجاوزا لكل السلبيات التي كانت قائمة مع الرئيس عون وتياره، الرافع أساسا لراية إصلاح الخطوط السياسية العامة وتغيير البلاد وتخليصها من أدران الفساد والمحسوبية ونهب المال العام من قبل الصغير والكبير، وها هو العهد الجديد يستهلك الأيام والأشهر الطويلة، وتستهلكه الممارسات التي لم يلمس اللبنانيون منها إلا جزيئات من التغيير والإصلاح، واذا كان إقرار قانون الإنتخابات الجديد والتمديد للمجلس قرابة العام يعد أبرز الإنجازات التي أتمها العهد بعد كل هذه المدّة التي انقضت على نشأته، ها نحن أمام انتقادات تبرز يوما بعد يوم على اضطراب خياراته وممارساته ووسائله التنفيذية، وها هي الإنتخابات النيابية الفرعية التي يوجب الدستور إجراءها في المواقع النيابية الشاغرة، تكاد أن تكون بحكم الملغاة لأكثر من سبب وسبب غير دستوري وغير مقنع. وها هي قضية إقرار سلسلة الرتب والرواتب تكاد أن تجمد مفاعيل إقرارها، وأن توضع جانبا في انتظار ما يتقرر بشأنها من خلال المؤتمر الذي عقد في القصر الجمهوري لاتخاذ القرارات التوفيقية بشأنها وسط حواميل المواقف الشعبية المعارضة والمتصادمة، والتي بدأت بالإعتراض المصادم وبالنزول مجددا إلى الشارع بما يهدد بحلول مرحلة جديدة حافلة بالأنواء والمطبات والمصاعب. وها هي قضية جرود عرسال وتصرفات حزب الله بشأنها وسياسة الأمر الواقع المتجاوز للدستور والقوانين والأعراف، والتصادم مع سيادية الدولة وصلاحيات الجيش اللبناني كونه الجهة الوحيدة المجاز لها معالجة القضايا العسكرية، الصغير منها والكبير، كما والجهة الوحيدة التي تنطلق من قرارات الدولة والحكومة لتملي مواقفها وتصرفاتها العسكرية على الجميع.
وها هي قضية القاضي شكري صادر، والموقف من استقلالية السلطة القضائية تفجر أوضاعا مؤسفة بعضها معلن وإن يكن المخفي هو الأعظم، ليدل ذلك بوضوح على أن الأحوال العامة ما زالت تتخبط في مسالك مؤسفة تضع إنتاجية العهد الجديد والذي لم يعد جديدا، في مواقع التقصير ومخالفة القوانين والفشل في تحقيق أي بند متميز من بنود الإنجازات المطلوبة.
وها هي العراقيل المتتالية توضع في وجه رئيس الحكومة الذي أعطى الكثير في سبيل المصلحة اللبنانية العليا دون ان يقابل بعطاء مماثل في نصف الطريق، مما يضطره بين سلسلة المشاكل الطارئة إلى السفر إلى السعودية وإلى الولايات المتحدة وإلى الكويت لدوزنة بعض الاحتقانات الأميركية ضد حزب الله، وللملمةِ التصرفات المتجنية التي يقوم بها الحزب من خلال تهجماته المستمرة على المملكة، ودوره في قضية العبدلي في الكويت، والمواقف المتخاذلة وغير المسؤولة التي يتخذها وزير الخارجية جبران باسيل، الذي وضع مذكرة الإحتجاج الكويتي الموجه إلى لبنان في أدراج الإهمال وللتناسي.
الوضع القائم إذن ينذر بأن الأحوال عموما ليست على ما يرام، وأن شؤون الحكم لا يمكن أن تستمر من خلال موجات عشوائية تتجاوز الدستور وتخالف القوانين ولا تلبّي الوعود بالتصدي للفساد الذي يزداد إطباقه على الدولة من كل حدب وصوب.
وربما كان هناك بعض من العذر المخفِّف المتأتّي عن أوضاع المنطقة الحافلة بكل أنواع الغليان والإحتقان، ولكن ذلك لا يلغي المخالفات والتصرفات المؤسفة التي تواجهنا من قبل البعض، الأمر الذي بات يستدعي منا جميعا، وقفة وطنية ملحّة نستطيع بواسطتها أن نعيد البوصلة المهتزة، إلى وجهتها السليمة.