Site icon IMLebanon

ملفات داخلية وإقليمية قبل الولادة الحكومية

 

في تموز من العام 1958 حصل الانزال الاميركي لقوات من مشاة «المارينز» عند السواحل اللبنانية. للوهلة الاولى ساد اعتقاد انّ الولايات المتحدة الاميركية تدخلت بهدف دعم الرئيس اللبناني كميل شمعون، والذي كان قد دخل في نزاع داخلي عنيف مع معارضيه وتطور الى مواجهات مسلحة.

لكن الواقع انّ ثمة عوامل إقليمية عدة تراكمت وأدّت الى جعل واشنطن تستعرض عضلاتها على الشاطئ اللبناني. ففي العام 1956 أمّمَ الرئيس المصري جمال عبد الناصر قناة السويس، وهي الشريان الحيوي الذي يربط البحر الاحمر بالبحر الأبيض المتوسط وما أعقبه من فشل الهجوم العسكري الفرنسي – البريطاني – الاسرائيلي في تحقيق مبتغاه.

 

وكذلك تمّ في العام 1957 الاعلان عن «مبدأ أيزنهاور»، الهادف الى إيقاف التمدّد السوفياتي في المنطقة. وجاء الانزال الاميركي في العام التالي ليُحاكي تطورات العراق، ولإبراز عضلات واشنطن لحماية مصالحها الاقليمية الحيوية النفطية، وتأكيد استعدادها لاستخدام القوة عند الضرورة.

 

طبعاً صورة القطع البحرية الغربية عند الشاطئ اللبناني حالياً لا تتطابق مع صورة الانزال الاميركي في العام 1958، ولو أنّ هنالك بعض وجوه الشبه. فالتعقيدات الاقليمية تزداد، والتحولات الحاصلة تستولد خريطة سياسية جديدة في الشرق الاوسط وهو ما يعمّق التوترات في المنطقة. فالاعلان عن التطبيع الكامل بين اسرائيل ودولة الامارات العربية المتحدة، والذي سيليه خطوات مماثلة قيل انها ستشمل البحرين وسلطنة عمان اضافة الى بلدان اخرى، إنما سيعني إعادة تشكيل المنطقة على اساس جبهة قوية في وجه ايران. وهو ما يعني حسابات اخرى ومفاهيم جديدة للنزاع مختلفة كلياً عن مفاهيم العقود الماضية حين كانت القضية الفلسطينية تحتلّ الاولوية المطلقة لدى البلدان العربية.

 

وفي البحر نزاع حساس جداً عنوانه الثروة النفطية، والذي أخذ شكل التوتر التركي – الفرنسي، فالاقتصاد التركي في أسوأ فتراته على الاطلاق منذ اكثر من 5 سنوات. فاحتياط النقد الاجنبي يتراجع بنحو 5 مليارات دولار شهرياً، واحتياط المصارف اصبح يقدّر ما بين 40 الى 50 مليار دولار من دون الالتزامات الاجبارية، وهو ما يعطي المصارف فترة أقصاها 8 أشهر فقط.

 

وتوقفَ تدفّق رؤوس الاموال الاجنبية الى تركيا، لا بل سجّل هروب رؤوس اموال اجنبية في وقت فقدت الليرة التركية نحو 13 % من قيمتها.

 

في اختصار، يُجازف اردوغان ومعه مشروعه السياسي في الذهاب الى خسارة انتخابية، فكان الاندفاع للتعويض من خلال وضع اليد على أوسع مساحة ممكنة من الثروة النفطية البحرية مُستنداً على نجاحه حتى الآن في ليبيا، وبالتالي إمساكه بجزء أساسي من الامن البحري الاوروبي. فالدعم التركي العسكري لقوات الحكومة الليبية وتزويدها الدفاعات الجوية والمرتزقة ساهَم في دحر قوات المشير حفتر المدعومة من فرنسا وروسيا والامارات ومصر، لكن من دون ان يهزمها.

 

وواكب هذا التمدد البحري التركي اندفاع للتنقيب عن الغاز في مناطق بحرية تعتبر متنازع عليها. وحصلت احتكاكات، وهو ما دفع بباريس الى إرسال طائرات حربية الى قبرص حيث لبريطانيا قاعدة جوية تستقبل طائرات تجسّس ورصد أميركية تتولى متابعة الاوضاع في سوريا ولبنان. إضافة الى مقر لرصد الاتصالات لبريطانيا على الجزيرة القبرصية.

 

وفي هذه الحال تصبح القطع البحرية الاوروبية عند الشاطئ اللبناني في موقع أفضل للحد من حرية الحركة البحرية التركية، وكذلك للتضييق على تواصلها مع ليبيا.

 

وفي نهاية المطاف إنّ الساحة اللبنانية تتأثر مباشرة بالنزاعين الكبيرين الدائرين في المنطقة، الاول مع ايران والثاني مع التسابق على الثروة في البحر.

 

ولا حاجة للتكرار أنّ الحركة الفرنسية في لبنان تحظى بدعم الاميركي، وهو ما أظهَره في وضوح الموفد الاميركي ديفيد هيل خلال زيارته للبنان.

 

وجاء البركان الذي انفجر في مرفأ بيروت وقذف بحممه على الاحياء السكنية في العاصمة وأدى الى استقالة الحكومة ليفتح الباب واسعاً امام اعادة ترتيب الاوراق في لبنان.

 

جاء الرئيس الفرنسي في زيارة طارئة، وتلاه وكيل وزارة الخارجية الاميركية. وطالما انّ المعطيات تبدلت على الساحة اللبنانية، فلا بد أن يكون للحكومة اللبنانية المقبلة برنامج متجانس مع الاستحقاقات المطروحة. فعدا الالتزام بأولوية الاصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي ومعه العواصم الغربية المهتمّة بالوضع اللبناني، والتي التزمت بها حكومة حسان دياب وفشلت في تنفيذها، هنالك مهمات إضافية للحكومة المقبلة. فالديبلوماسي الاميركي ديفيد هيل ذهب مرتاحاً الى نتيجة لقائه مع الرئيس نبيه بري حول ترسيم الحدود البحرية، لا بل اكثر فإنّ لبنان طالبَ على ما يبدو بدخول الشركات النفطية الاميركية على خط التنقيب عن الغاز في البلوك الرقم 9 الجاري ترسيم حدوده.

 

وهنالك ايضاً مشروع إعادة بناء مرفأ بيروت، وضمناً اعادة رسم وتركيز طريقة إدارته وضبطه والامساك بمفاصله، وهنالك لاحقاً ترسيم الحدود البرية، والتي يبدو أنها ستنطلق فور التفاهم الكامل على النقاط المتعلقة بالحدود البحرية. وحيث أنّ لبنان ما زال مصرّاً على تزامن الاعلان عن ترسيم الحدود البحرية والبرية، بمعنى انّ التفاهم حول الحدود البحرية لن يعني الاعلان عن ذلك في انتظار التفاهم على ترسيم الحدود البرية.

 

وهذه الملفات اضافة الى ما سيتفرّغ منها، في حاجة الى مواكبة الحكومة. حتى الآن يتمسّك الثنائي الشيعي بتسمية الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة، فيما لا يبدو رئيس الجمهورية موافقاً الّا في حال ترؤس الحريري حكومة أقطاب، اي أن تلحظ جبران باسيل في صفوفها. وهو قال للذين راجعوه انه ليس مستعجلاً ليبدّل موقفه.

 

في الوقت نفسه لم يُباشر الرئيس الفرنسي مسعاه في اتجاه السعودية لانتزاع موافقتها على عودة الحريري الى السرايا الحكومية. ربما في انتظار تسوية الملفات الجانبية الجاري التفاوض عليها حول الغاز والمرفأ والحدود. فباريس التي ما تزال باردة في حركتها تفضّل حكومة برئاسة الحريري ولكن مع وزراء غير حزبيين ويغلب عليهم طابع وزراء الاختصاص. لكنّها ليست مَيّالة الى حكومة سياسيين وحزبيين بسبب غضب الشارع ورفضه لها، ولا الى حكومة من اختصاصيين وتكنوقراط برئاسة شخص غير الحريري، لأنها ستكون عاجزة ونسخة طبق الأصل عن حكومة حسان دياب.

 

أضف الى ذلك أنّ الحريري أبلغ الى من يعنيهم الأمر رفضه زيارة قصر بعبدا قبل التكليف تجنّباً لفتح باب المقايضات، كذلك أبلغ انّ كتلة «المستقبل» لن تشارك في الاستشارات في حال تسمية شخصية غيره. أي بتعبير أوضح عدم منح أيّ أحد غيره الغطاء السنّي. وهو ما يعني صعوبة إحداث خرق حكومي قبل زيارة الرئيس الفرنسي الى لبنان، ليس فقط بسبب التعقيدات اللبنانية، بل ايضاً في انتظار التفاهمات حيال الملفات الأهم، والتي ما تزال في حاجة لبعض الوقت أيضاً.