جميع المصائب القاتلة قـدْ حلَّـتْ دفعةً واحدةً عل هذا الشعب، في فترة زمنيّـة مضغوطة، وما عليك إلاّ أنْ تُلقي نظـرةً خاطفة على هذه الطبقة السياسية عندنا، حتَّى يتولاَّكَ الرُعْب.
يقفون كما تماثيل الشمع أمام الوطن الممـزّق والشعب المعلّق عل خشبة المصلوب.
وكما في يوم «السقيفة» يتركون النبـيَّ على فراش الموت ليختاروا الخليفة.(1)
هـمُ الحكّامُ وهـمُ الخلفاء، والخلافة عندهم: مـالٌ وبنون لا وطـنٌ ولا مواطنون.
صراعٌ على الحكومة…؟ حكومة منهم وإليهم: تدوم لك وتـؤول إليك، كـلُّ همّهـم المناصب، ودمُ الضحايا الذي تسبّـبوا بـهِ لـمْ يجـفّ، وقبل أنْ يؤمِّنـوا القبور لـمَنْ يلتهمهم سمَكُ البحر.
يعيّنون أنفسهم حكاماً في جمهورية الـذُلّ، والوزير الشرِّيـر السابق وزيـرٌ شريـرٌ لاحق، «وشـرُّ وزرائك مَـنْ كان للأشرار قبلك وزيـراً.»(2)
عندما تكون الطبقة السياسية: فاشلةً فاسدةً متَّهمة، تصبح غير مؤهَّلةٍ لتطرح نفسها في السلطة الحاكمة، ويصبح من غير التطفُّل، أنْ تتكرّم الدول الصديقة بتقديم المشورة والعون، لشعبٍ مقهورٍ ووطـنٍ مبتور.
«بحبك يا لبنان»: هذا ما اختتم بـه الرئيس الفرنسي «ماكرون» خطابَـه يوم زار لبنان، وهـمْ امامه كالدُمى، بما تعني هذه العبارة من تأنيب وطني، وكأنها صفعةُ التاريخ على وجـوهٍ جـفَّ ماؤها وخـفَّ حياؤها.
هذه الدولة ساقطة ولا تحتاج إلى من يسقطها، الدولة أسقطت الدولة، الدولة دمّرت الدولة، الدولة أفلست الدولة وأفلست الناس، سرقت الدولة وسرقت الناس، الدولة محتقرة في نظر العالم، والشعب في نظر العالم هو العظيم، يكفي أنْ توجِّـهَ إليه الدولُ مساعداتها متجاهلةً شرعية الدولة، لتبدو لك الدولة ساقطة.
وعندما تفقد الدولة شرعيتها الشعبية والعربية والدولية تصبح مشروع دولة وتحتاج إلى اعتراف العالم بها.
في الدولة الساقطة: على المرشح لرئاسة الحكومة والمرشحين الوزراء أن يخضعوا لامتحان شرعي في الشارع، ينالون الثقـة من «بـرلمان المرفـأ» حيث بحـر الدموع، لا مِـنْ برلمان السلطة حيث بحـر الفساد.
ما هو الحـلّ…؟
الحـلّ في استراحة المحارب الناهب، واستقالة هيمنة الزعامات المدنّسة على السلطة الحاكمة، وإحالـة محـور الزعامة، إلى النخبة الفتّيـة الشابّـة والقادرة وحدها على إخراج لبنان من عهد الفساد والشيخوخة القاصرة، حيث الحكم للعقل والنزاهة والإختصاص والشعور بالمسؤولية والولاء الوطني العفيف.
شباب لبنان على وشك فقدان الثقة بأنفسهم وبالمستقبل وبلبنان.. وقد أصبح تاريخ لبنان تاريخ إنسانية معذّبـة تبحث عن نفسها في مـوقع آخر على هذه الأرض، وأصبحت الأجيال الطالعة تبحث في بـلاد أخرى عن المستقبل المفقود في بلادها.
الشباب تلِـجُّ في نفسه ثورة ضـدَّ الإمتيازات الموروثة والقيادات التي تهبط عليه بالقـوّة من فوق حسب مفهوم القرون الوسطى، حيث علاقة الشعب بالحاكم علاقة الأسياد بالأتباع: السيّـدُ يـؤمِّن الخدمة للتابع، مقابل أنّ يؤمِّـن التابعُ للسيد ولاءَه وقـوّة ساعديه، وحنجرته التي تهتف بحياة الزعيم.
وبـات الشباب يتـوق إلى قيادة تصعد من صفوفـه وقد عضَّها الجـوعُ والألـمُ والحرمان.
عندما تصبح علاقة الشعب بالحاكم علاقة مـوتٍ أو حياة، تصبح الثورة شرعية ومشروعة حتى ولـوْ قوبِـلَ العنف بالعنف، إنّـه موقف الجندي في ساحة القتال: يَقـتُلُ كـيْ لا يُـقْتَل.
لعلّها الفرصة التاريخية الحاسمة أمام هَـوْل المآسي التي تنتظرنا، فرصةُ يقظـة الضمائر الغافلة قبل الإنفجار الدموي وفوات الأوان، هكذا استيقظ متأخراً ضمير الملك الفرنسي لويس السادس عشر في اللحظات الأخيرة التي سبقت إعدامَـهُ فقال وهو على المقصلة: «أتمنّـى أن يكون دمـي قـد سُكِـبَ من أجل سعادة الفرنسيين.»

1– «سقيفة بن ساعدة»: هي المكان الذي اجتمع فيه الأنصار لاختيار خليفة للنبـيّ، وبهذا المعنى يقول الشاعر عمـر أبـو ريشة في يـوم السقيفة: «تـركوا النبـيّ على فراش المـوت وانتخبوا الخليفة».
2– قـولٌ للإمام علي بـن أبي طالب.