IMLebanon

مشروع جديد للكنيسة المارونية… طبقةٌ سياسيّة عِمادُها الإداريّون

 

لعبت الكنيسة المارونية دوراً مهماً عبر العصور، في إحداث تغيير في المجتمع اللبناني عموماً، والماروني خصوصاً، فهي أسست لبنانَ الكبير ورسمت خطوطَ الدولة المدنية، وعند كلِّ مفترق خطير، كانت تسعى لإستنهاض المجتمع تحت عناوين نضالية، وطنية، لكي لا يغرق في الركود والثبات.

لا شك أنّ المرحلة الحالية التي يمرّ بها المجتمع المسيحي، تتطلّب رجالاً يقظين، أقلّ ما يقال عنهم، رجال دولة، أمثال الرئيسين كميل شمعون وفؤاد شهاب، والشيخ بيار الجميل، يفرزهم المجتمع لكي يكونوا قدوة يحكمون على أساس التفاهم والتنافس لخدمة المصلحة الوطنية، لا أن يتنازعوا على المصالح الخاصة والكرسي.

لدى سؤال دوائر بكركي عن سياسة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي واتهامه بعدم الإستمرار في سياسة واحدة، يكون الردّ بسؤال مقابل: «وهل السياسة في لبنان والشرق الأوسط ثابتة؟»

المدنيون والفاتيكان

تعتبر بكركي أنّ الوقت الآن ليس لتصفية الحسابات الفئوية أو الشخصيّة، أو اتباع سياسة مكابَرة وعناد، جرّبها المسيحيّون سابقاً، وأوصلتهم إلى مواجهاتٍ ما زالوا يدفعون ثمنها حتّى اليوم.

وتصرّ بكركي في الوقت نفسه على أنّ البطريرك الراعي لم يحِد عن الخطّ التاريخي للصرح البطريركي، إنما الملاحظات على أدائه تأتي على الشكل وليس على المضمون، فهو ينتقد السلاح غير الشرعي بقسوة، ويؤكد في كلّ مناسبة دعم الجيش والقوى الأمنية وتقوية الدولة، ويرفض المثالثة، ويصرّ على إنتاج قانون عادل للإنتخاب، والإستعجال في انتخاب رئيس.

وبالنسبة إلى طريقة رسم السياسة الحالية للبطريركية المارونية، فإنّ الفاتيكان يطّلع على كلِّ شاردة وواردة، ولا يخطو الراعي خطوة إلّا بالتنسيق معه، وحتى المطارنة الذين انتخبوا في عهده، يحظون برضى الفاتيكان، وقد أشرك الراعي المدنيين في صناعة قرار الكنيسة، بعدما كان الأسقف يتّخذ القراراتِ منفرداً.

من يُراقب مواقف البطريرك الأخيرة، يرى الوتيرة التصاعدية في لهجته، ليس فقط من خلال مطالبته بانتخاب رئيس جديد للجمهورية يُنهي الشغور القسري في قصر بعبدا إنما لجهة مهاجمة الطبقة السياسية واتهامها بالسرقة والفساد وهدر المال العام.

كثيرون رأوا في هذا الهجوم تكملةً لهجومه السابق على النواب جميعاً بلا تمييز بين مَن يُؤمّن النصاب ومَن يتغيّب عن الجلسات، وقلة معدودة على أصابع اليد، هي من الحلقة القريبة من البطريرك، تعرف أهداف هذا الهجوم وغايته، والذي يتّكل على البروباغندا الاعلامية الشمولية لتهيئة الأجواء لمشروع تحاول البطريركية المارونية تسييره، ربما يُحدِث تغييراً ما في البنية السياسية للمسيحيين.

المشروع

على المعترضين على لغة الراعي الشمولية في تحميل الجميع المسؤولية، خصوصاً داخل الاحزاب المسيحية، أن يخافوا أكثر ممّا تحضّره بكركي، وببركة فاتيكانية. وفي هذا السياق، ينقل مقرّبون من بكركي لـ«الجمهورية» أنّ «هناك مشروعاً يُحَضّر، ويقضي بدعم طبقة جديدة من القادة الموارنة لقيادة دفة الحكم، يشكّل الإداريون الموارنة الذين أثبتوا جدارتهم في الإدارات العامة والجيش، نواتها الأساس.

أما الأسباب التي دفعت الى محاولة خلق هذه الطبقة، فهي أنّ هؤلاء الإداريين هم أبناء دولة ولم يتورّطوا في الفساد وهدر المال العام، ومهما نسجوا علاقات مع الخارج، فإنّ ولاءهم يبقى للبنان.

وهم قادرون أيضاً على النجاح في السياسة بعدما فشل القادة الموارنة الحاليون في تخطي خلافات الماضي، ونقلوها الى الأجيال الصاعدة. إضافةً الى أنّ الفاتيكان يريد رئيساً مارونياً، لبنانيَّ الولاء ومرجعيته البطريركية المارونية والفاتيكان لا سوريا أو ايران أو السعودية، ويفضّله من الإداريين، من هنا يعمل الفاتيكان على الدفع في هذا الاتجاه، فيما يحضّر الراعي الشعب له نفسياً لتهيئة الساحة والتصويب على الطبقة الحالية لإسقاطها».

من جهتها، تؤكد مصادر بكركي لـ«الجمهورية» أنّ «هدفنا هو خلق طبقة مارونية جديدة، ونعمل لذلك برضى الفاتيكان»، مشيرةً الى أنّ «الكنيسة المارونية لا تعمل من تلقاء نفسها بل تعود الى السفارة البابوية والسفير غابريال كاتشيا، وعلى الجميع فهم هذا الترابط العضوي بين بكركي والفاتيكان، لا أن يقيسوا الأمور من المنظار السياسي».

وتوضح المصادر: «مطالبتنا برئيس يدين بالولاء الى لبنان ليس تشكيكاً في وطنية الآخرين، لكنّ انغماس الطبقة السياسية بالفساد أوصلنا الى مأزق لا نستطيع الخروج منه». وتؤكد أنّ «خلق طبقة سياسية مسيحية يحتاج الى وقت، لكننا نعمل عليه، ولو أننا لم نضع حتى الساعة آلية واستراتيجية واضحة لتحقيقه».

يشكّل انتخاب رئيس للجمهورية معيارَ ما إذا كانت بكركي قادرة على إحداث أيّ تغيير في بنية التركيبة السياسية المسيحية، خصوصاً أنّ المدى المنظور لا يبشّر بالخير.

إنتاج زعامات

يٌعيد علم الاجتماع السياسي مسألة إنتاج الزعامات السياسيّة الى حال المجتمع، فاذا كان المجتمع نشيطاً ومتقدِّماً ينتج زعامات تٌعبِّر عن تطلعاته، واذا كان في زمن الانحطاط فإنّ النتيجة كالتي نراها اليوم في بعض الزعامات المارونية التي تحرق بلداً لكي تصل الى كرسي الرئاسة. من هنا يبقى الرهان على دور الكنيسة في وقتٍ يغيب المجتمع المدني، وهو الذي إنغمس في لعبة الفساد والجمعيات الوهمية.

يعمل الإكليروس الماروني وفق تراتبية هرمية، ترتبط ببعضها البعض وتنسّق خطواتها في البلدات والقرى والمدن، وقد نجحت الكنيسة في مراحل سابقة في تطبيق الإدارة الرشيدة في مؤسساتها، فباتت المدارس والجامعات والمستشفيات التي تخضع لإدارتها قدوة في إنتاج العقول وتقديم الخدمات الأساسيّة التي يطلبها الإنسان لكي يشعر بالإستقرار ويواكب تطوّرات العصر.

والأهمّ من هذا كله، أنّ البيئة المسيحيّة حافظت على التنوّع والديموقراطية ولم تخضع لرأي الزعيم أو الحزب الواحد، والكنيسة نجحت في أن تكون مؤثرة في الحياة السياسيّة من دون الإنغماس في التفاصيل اليومية، آخذةً بالإعتبار تجربة الكنيسة الأوروبية ونفور الشعب منها، فكانت الكنيسة المارونية الى جانب شعبها في المحن.

التغيير ضروري

من هذا المنطلق، يشير راعي ابرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون الى أنّ «الكنيسة قادرة على إحداث تغيير في المجتمع، عبر إعطاء صورة للعالم بأننا موحدون، فلو كانت الظروف عادية لكان التنافس على الزعامات بين الموارنة طبيعياً، لكن في هذه المرحلة الإستثنائية، على الزعماء أن يتوحدوا ويجتمعوا مع البطريرك لإنقاذ المجتمع ما يؤدي الى استعجال انتخاب رئيس للجمهورية».

وينظر عون الى المشكلة في عمقها الأساسي، ويقول لـ»الجمهورية»، إنّ «السبب في تدهور حال المجتمع المسيحي هو ابتعاد الزعماء والشعب عن الانجيل». ويقول: «بالنسبة لي التغيير يبدأ بالعودة الى الإنجيل والشهادة للمسيح والايمان، لأنّ البعد عن الله أضعفنا».

ويؤكد أنّ «تجديد الايمان الماروني يدفعنا الى العمل لنهضة المجتمع». ويروي انه «في ابرشيته وفي أصغر البلدات تحصل اشكالات على أمور صغيرة قد تؤدي الى مشكلات، لذلك، يجب على الموارنة أن يعودوا الى لغة المحبة والتسامح لا أن يسيطر عليهم الكره والحقد». ويدعو عون الى أن «يعمل السياسيون بعيداً من الاعلام لأنّ العناوين الكبرى لا تُحَلّ بالاعلام، والبطريرك عليه أن يجمعهم من دون ضجيج إعلامي».

ويشدّد انّ «الانجيل يدعو الى التجدّد فاذا كان هناك طبقة ناجحة من الاداريين لماذا لا ندعمها؟، فمن واجبات الكنيسة دعمها إذ إنّ الزعامة ليست محصورة فقط بأشخاص ينتمون الى عائلاتٍ بل هناك مجتمعٌ يجب أن يتجدّد ويُنتج قياداتٍ تحافظ على هذا البلد كما أراده الموارنة، لأنّ المارونية من دون ارض لبنان تفقد قيمتها، خصوصاً أنّ كلَّ مسيحيي الشرق يتطلّعون إلينا».

إمبراطوريات وإحتلالات مرّت على لبنان، قاومتها الكنيسة وصمدت، لكن بعد 1500 سنة من النضال، هل تعب المجتمع المسيحي والكنيسة وباتا غير قادرَين على الإنبعاث من جديد؟