Site icon IMLebanon

عادية السنّة واشتهاء «داعش»

ليس لدى العرب السنّة ما يجذب اهتمام العالم. ليسوا أقلية في أغلب البلدان التي يقيمون فيها، وليست لديهم معابد على رؤوس الجبال أو طقوس غامضة ورجال دين محجوبون. ولا يشكلون مادة لدراسة علماء الانتروبولوجيا الغربيين الفضوليين، ولم يتخصصوا في مهنة ولم يتحصنوا في منطقة مقفلة أمام غيرهم ولا حصروا أنفسهم في المدينة دون الريف أو العكس.

تراهم منتشرين على امتداد المشرق والمغرب من دون أن يحظوا بانتباه خاص. ذلك أن تاريخهم ودينهم وفقههم ومذاهبهم قد دُرست واستوعبت منذ مئات السنين ولم يكن لديهم أصلاً ما يخفونه أو يخافون إعلانه بسبب طول بقائهم في السلطة واعتبار هذه الأخيرة حقاً طبيعياً لهم. هذه «العادية» التي أعقبت تعامل الغرب المديد معهم أثناء الحروب الصليبية وفي الأندلس وفي مواقع أخرى، أخرجتهم من دائرة الاهتمام الغربي (ثم العالمي)، خصوصاً بعدما حمل العثمانيون لواء الحضارة الإسلامية، وكان نصف امبراطوريتهم تقريباً يقوم على الأراضي الأوروبية، أو ما عُرف بـ «الروملّي»، إضافة إلى الصفويين في فارس وامبراطورية المغول المسلمين في الهند، بعد انسحاب العرب من التاريخ.

ولم ينجُ العرب السنّة من الأحكام المسبقة التي وسمت ثقافتهم واجتماعهم بالتخلف، وهي الأحكام التي أفضت إلى التعامل معهم ككمّ مهمل أثناء تقاسم إرث السلطنة العثمانية، على سبيل المثال، ثم حملت الغرب على اعتبار أنظمة الاستبداد الممثل الحقيقي لهم وأنهم ليسوا من طلاب العدالة والحرية ما داموا قانعين بحكوماتهم القمعية.

هذه التصورات تفسر جزئياً الإهمال الشديد الذي تُقابل به المذابح التي تنزل بالجماعة العربية السنّية في الأعوام الماضية. الضجة الهائلة التي أحاطت بمأساة الإيزيديين أو الأشوريين أثناء تقدم «داعش» في العامين 2014 و2015، أو حتى بالصخب الذي أثير عند احتلال المعارضين السوريين بلدة كسب الأرمنية، لا يُقارنان بالفتور الذي لاقته الصور الآتية من مضايا والزبداني واليرموك وحمص لأطفال يتضورون جوعاً، ناهيك عن اللامبالاة حيال التدمير والقتل المنهجيين في مدن أخرى.

في المقابل، قدّم تنظيم «داعش» كل ما يشتهيه الباحث والسياسي والإعلامي الغربي من إثارة. يتجاوز الاهتمام المذكور مجرد العمل على دراسة ظاهرة جديدة وغامضة وفهم خلفياتها الاجتماعية والسياسية وما شاكل، ليصل إلى مستوى الفضول الذي تلاقيه الجماعات الشرقية الغامضة والسرية. فـ «داعش» الذي قدم نماذجَ من الوحشية والعنف تفوق تصور أكثر المستشرقين جموح خيال وسوء طوية، أحيا تقاليد الطوائف الشرقية السرية، ليس بانتمائه إلى عالم القرون الوسطى بل لانتمائه العضوي إلى ما بعد الحداثة وتعبيره عن سلسلة من الاستعصاءات في المشرق العربي وفي الغرب ذاته.

وفي الوقت الذي يعبر «داعش» عن تعمق الانشقاق داخل الجماعة السنية بين الإسلام الجهادي الذي تدفعه «الدولة الإسلامية» إلى حدوده القصوى، وبين ما يوصف بـ «الإسلام المعتدل» والمستمر منذ سبعينات القرن الماضي، وفيما تعجز المؤسسة الدينية التقليدية عن إبداع طرق جديدة لإحباط اندفاعة «داعش»، يكتفي التيار العريض من وسائل الإعلام الغربية بالمقاربة السطحية للظاهرة والتركيز على طابعها الغرائبي وتقديمها كدليل إضافي على لا عقلانية الشرق وانعدام قدرته على التطور واللحاق بالعصر.

المفارقة تكمن في أن هذه الصورة تفيد جميع الأطراف المعنية. «داعش» الذي يرسم نفسه بألوان الخلافة الإسلامية والحكومات العربية التي تبرر قمعها باستمرار الحرب على الإرهاب، والغرب الذي يلقي على تصاعد عنف الإسلام الجهادي تبعات أزمات داخلية وتناقضات سبقت دخول «داعش» وأخواته إلى المسرح، بأعوام طويلة.