رواية لم يكتبها التاريخ الرسمي لقصة الاستقلال اللبناني
حكايات لمواطنين وعسكريِّين اسهموا في صناعة الحدث الوطني الكبير
مواطنون عاديون، وسياسيون، وجنود وضباط، لعبوا دورهم في معركة الاستقلال قبل 75 عاماً، وبدايات النزعة الاستقلالية كانت أولى بوادرها على مستوى العسكريين اللبنانيين، ففي سنة 1941، بدأت في إطار الحرب العالمية الثانية المعارك بين الجيوش الفرنسية المنقسمة على نفسها بين ديغوليين وفيشيين، فاستخدم الفيشيون فرق الجيش الخاص، وفيها اللبنانيون والسوريون لمحاربة أنصار الجنرال شارل ديغول وجيوش الحلفاء الزاحف إلى الشرق، فرأي عدد من الضباط اللبنانيين في الجيش الفرنسي الخاص أن لا فائدة لوطنهم من الاشتراك في هذه الحرب بين فئتين تنتميان إلى بلد واحد.
وما كاد يتم انتصار الجيش الفرنسي المناصر لديغول والحلفاء حتى صدرت الأوامر للجيش الخاص والمتطوعين اللبنانيين بأن يتمركزوا في الذوق، حيث عقد الضباط اللبنانيون اجتماعاً خاصاً تدارسوا فيه الموقف على ضوء مصلحة البلاد العليا، واتخذوا قراراً بألا يكونوا الا في خدمة لبنان، وألا يأتمروا الا بأوامر السلطة اللبنانية العليا، ووضعوا وثيقة تاريخية، موقعة من أربعين ضابطاً لبنانياً عاهدوا فيها الله والشرف ألا يخدموا الا سلطات وطنهم، والا يخضعوا إلا لاوامرها، ولم يقبلوا باستئناف القيام بالمهام العسكرية الا بعد ان نالوا وعداً من السلطات الديغولية والحليفة باستقلال لبنان التام، وكان أوّل وعد رسمي بالاستقلال يعطى للبنان بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى هذا الأساس رضي الضباط اللبنانيون باستئناف الخدمة، وتسلم النقيب جميل لحود قيادة فوج القناصة الأوّل.
اما الضباط اللبنانيون الذين حضروا الاجتماع التاريخي في الذوق ووقعوا على الوثيقة الوطنية التاريخية فهم: اللواء فؤاد شهاب، جميل لحود، قيصر زهران يمين، توفيق سالم، عزيز غازي، جميل شهاب، وديع ناصيف، عزيز قواص، عادل شهاب، يوسف الخوري، غطاس لبكي، يوسف كسبار، جوزيف حرب، جميل الحسامي، نقولا سماحة، داود حماد، فؤاد لحود، مخايل أبو طقة، سعيد الخوري، انطوان عرقتنجي، الطبيب حسيب يزبك، منصور لحود، ريمون حايك، فاتك زوين، سعد الله النجار، ارام سولكجيان، فؤاد قديس، انترانيك، جورج معلوف، ميشال نوفل، وجيه كرم، يوسف رستم، هنري غازي، كيغام مورديان، انطوان روفايل، اسكندر غانم، وعبد القادر شهاب.
اما في العام 1943، وبعد انتخاب أوّل رئيس استقلالي هو بشارة الخوري وتشكيل الحكومة الاستقلالية الأولى برئاسة رياض الصلح في أيلول بدأ لبنان يدخل مرحلة جديدة من تاريخه، حيث ان اللبنانيين الذين كانوا يشعرون منذ عام 1920 بأنهم منقسمون وطنياً وسياسياً، شعروا عام 1943، بأنهم يشكلون فريقاً وطنياً واحداً ملتفون حول «الميثاق الوطني» الذي صهر عقيدتين وطنيتين وسياسيتين في عقيدة واحدة، ففي تشرين الثاني عام 1943 صار الوفاق الوطني على المستويين القيادي والشعبي حقيقة واقعة وملموسة، وتجلى ذلك بالالتفاف الشعبي حول الاستقلال وباطلاق سراح رئيسي الجمهورية والحكومة بشارة الخوري ورياض الصلح والوزراء والنائب عبد الحميد كرامي من قلعة راشيا في 22 تشرين الثاني.
وخلال المدة الفاصلة ثمة عدّة وقائع وحقائق برزت في صور مختلفة مجسدة إرادة ووحدة اللبنانيين أبرزها:
عسكرياً: من الأسرار الهامة للانتفاضة اللبنانية من أجل الاستقلال التي لم تنشر، ان الفئة التي حاولت القضاء على استقلال لبنان من غلاة الانتداب، وضعت عندما شعرت بحراجة موقفها خطة لخطف الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، وجميع المعتقلين في راشيا واغتيالهم، للقضاء على الشرعية وعرقلة الاستقلال والانتقام منهم، وقد عرف النقيب جميل لحود بهذه المؤامرة الخطيرة من أحد اصدقائه الشرفاء، فبادر فوراً إلى أخذ الاحتياطات القوية لحماية المعتقلين وإحباط المؤامرة الاجرامية، فاتصل بإخوانه الضباط اللبنانيين وقادة الافواج ووضع بالاشتراك معهم خطة لمهاجمة قلعة راشيا، وإنقاذ الرئيسين وجميع المعتقلين بالقوة وإطلاق سراحهم، ولكن تسارع الأحداث ونجاح محادثات الجنرال كاترو بسرعة واطلاق سراح المعتقلين قبل موعد الهجوم لانقاذهم من سجن قلعة راشيا سبق اللجوء إلى تنفيذ هذه الخطة الوطنية الجريئة.
ومن أسرار الثورة اللبنانية في سبيل الحرية والاستقلال التي لم تنشر ومن الضروري افشاؤها للتاريخ، ان جميل لحود عندما كان معسكراً مع فرقته في مرجعيون أثناء اعتقال رئيسي الجمهورية والحكومة الشرعية في راشيا، كان يأتي سراً إلى بيروت، وربما مراراً في اليوم الواحد مدججاً بسلاحه الحربي مصطحباً عدداً من الحراس الفدائيين، ويجتمع بشقيقه المرحوم اميل لحود في دار أحد اصدقائه ببيروت، ويحمله رسالة العسكريين اللبنانيين إلى حكومة بشامون وتأييدهم المطلق واستعدادهم لكل تضحية مهما بلغت في سبيل دعم الثورة وعدم التراجع حتى إحراز النصر النهائي، فيشدد عزائم حكومة بشامون ويشجعها على الثبات والمقاومة، فكان لجرأة العسكريين الوطنية اقوى حافز لمتابعة الثورة وخير سند لها في النضال الوطني.
في ظل هذه التطورات، كان العديد من العسكريين اللبنانيين سواء من الجيش أو من قوى الأمن الداخلي يتركون ثكناتهم ومخافرهم ويلتحقون بحكومة بشامون ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، أديب بعيني الذي ترك فصيلته في حلبا في عكار، والتحق ببشامون، وصار أحد قادة الحرس الوطني، من دون ان ننسى المواجهات الشعبية مع قوات الانتداب، واستشهاد ومواطنين منهم على سبيل المثال لا الحصر، الشهيد سعيد فخر الدين.
شعبياً: لم تهدأ التحركات الشعبية التي يصفها منير تقي الدين، بأنها كانت دائمة ومستمرة، ويتحدث عن مظاهرة نسائية كبرى، حاول بعض رجال الشرطة تفريقها بالقوة، لكن النساء واجهن الشرطة وتابعن تظاهرتهن حتى وصلن إلى دارة مفتي الجمهورية محمّد توفيق خالد في المصيطبة، فوصلت في اثرهن أربع سيّارات كبيرة واثنتان صغيرتان مشحونة بالجنود السنغاليين، وعلى رأسهم ضباط فرنسيون، فنزلوا وسددوا بنادقهم نحو المتظاهرات، فصاحت فيهم سيّدة بلغة فرنسية ممتازة: «لمن اتيم بكل هذه القوات؟ فهل الحرب هنا؟ انكم مخطئون، الحرب بينكم وبين الالمان، اذهبوا إلى بلادكم وحرروها من نير الاحتلال وابرزوا رجولتكم».
وهنا تقدّم مفتي الجمهورية الشيخ محمّد توفيق خالد وقال للسيدة: «انت على حق يا سيدتي». مشيرا إلى الضابط الفرنسي بغضب ان يسحب جيوشه حالاً، وهنا دب الحماس في الشباب البيروتي، وكاد الجدل يتحوّل الى معركة، لولا حكمة المفتي، في الوقت الذي بادر فيه الضباط الفرنسيون إلى سحب قواتهم إلى أكثر من مئتي متر من امام مدخل دارة المفتي، حيث كانت المتظاهرات قد لجأن إليه.
وإذا كانت تلك الأيام المشهودة، في تاريخ لبنان قد انتهت في 22 تشرين الثاني 1943 بإطلاق سراح المعتقلين في راشيا، الا ان معركة الاستقلال التام وجلاء الجيوش الأجنبية عن لبنان لم تنته الا في الأوّل من كانون الثاني 1946، وهنا يسجل المزيد من النضال الشعبي والوطني اللبناني، لعل أبرزها ما هو محفور في تاريخ بعلبك، إذ انه قبيل الجلاء، كان علم فرنسي مرتفعاً فوق بناية القنواتي المقابلة للقلعة، بحماية سرية درك المدينة التي كانت ما تزال خاضعة للادارة الفرنسية، وهنا قرّرت مجموعة صغيرة جداً من الشباب البعلبكيين إنزال العلم الفرنسي عن ساريته، قبيل عيد الاستقلال، فقام شاب هو يوسف علي رعد، فجراً، بكسر سارية العلم وانزاله في نفس الوقت الذي كان يوجد في ثلاثة شباب هم: أبو عقيد الطقش، عبد الرحمن الرفاعي وعدي حيدر يراقبون الطرق ومفترقاتها.
وفور شيوع خبر نزع علم الانتداب نصح أحد أبرز نشطاء القوة العربية الكبرى من اللبنانيين وهو توفيق هولو حيدر، يوسف رعد والشباب الآخرين بالتخفي حتى جلاء الفرنسيين التام، وخصوصاً ان المستشار الفرنسي كان لا يزال في مدينة بعلبك.
بأي حال، اثر هذه العملية، جن جنون الفرنسيين الذين كانوا قد أصبحوا متمركزين في ثكنة رياق، فقاموا بعمليات انتقامية من الأهالي ونفذوا مجزرة جماعية باعدامهم 52 شخصاً بريئاً في بلدة تمنين التحتا، وتم دفنهم في مقبرة جماعية.