IMLebanon

 محنة للأكراد … ولكنْ للعراق أيضاً

 

أن يحصل للأكراد ما حصل في كركوك فهذا محنة كبرى. لكنْ لأنّ الأمور لا تقاس تجاريّاً، بالربح والخسارة، تبقى قضيّة الأكراد في الاستفتاء، وفي الاستقلال، قضيّة مُحقّة. مهزومين كانوا أم منتصرين، قضيّتهم على حقّ.

فوق هذا، فالمحنة التي تفوق محنة الأكراد حجماً هي محنة العراق كوطن وكمشروع. فأن يتولّى قاسم سليماني وأزلامه الطائفيّون «تحرير» كركوك وإعادتها إلى «الوطن»، فهذا هو الوجه الآخر لهزيمة الجيش العراقيّ في الموصل حين سطا عليها «داعش». العبرة من ذلك أنّ العراق بات لا ينتصر إلاّ بالإيرانيّين وأزلامهم. من دونهم ينهزم. إذاً: الوطنيّة الموعودة إنّما تشيّدها إيران وقوى طائفيّة ما- دون وطنيّة.

نبدأ مع الأكراد. الكثير ممّا يقال في قياداتهم صحيح للأسف: الفساد المشترك بين الطرفين البارزانيّ والطالبانيّ. عشائريّة الطالبانيّين فوق فسادهم. الفشل في فهم العالم وسياساته، وخصوصاً سياسة أميركا، وبالأخصّ في ظلّ ترامب، وصولاً إلى إدراج كركوك، البالغة التعقيد، في نطاق الاستفتاء.

لقد عجزوا حتّى عن توحيد البيشمركة. تنافُسهم الصغير والوضيع استعاد أجواء أواسط التسعينات، حين استعان طرف منهم بإيران وطرف ببغداد الصدّاميّة. وأمام المحنة الأخيرة، وضمور تجربة أربيل – السليمانيّة، يُخشى ألاّ يقوى إلاّ الخطّ الأوجلانيّ العدميّ الذي يُحتفى به اليوم في الرقّة، لا سيّما إذا تصرّف الأميركيّون على أساس أنّ أكراد سوريّة أنجزوا المهمّة ضدّ «داعش» وعليهم أن يختفوا هناك أيضاً.

أبعد من هذا، وهو ما يؤلم، أنّ مسعود بارزاني بدّد فرصة هائلة لكي يكون زعيماً تاريخيّاً استثنائيّاً على مدى الشرق الأوسط، زعيماً بديلاً من الزعماء القبليّين والفاسدين الذين نعرفهم. لم يفعل هذا. لم يبن ديموقراطيّة. لم يكافح الفساد والعشائريّة. اختار أن يعطّل البرلمان ويُرخي الحبل للسارقين الفاسدين من أقاربه ومقرّبيه. اختار أن يكون شيخ عشيرة في مقابل شيوخ العشيرة الفاسدة الأخرى التي تحكم السليمانيّة.

معركة كركوك الأخيرة سلّطت الضوء على بارزاني بوصفه وريثاً شرعيّاً لياسر عرفات ولنمط في الزعامة تكون فيه القضيّة كبيرة والزعامة صغيرة.

مع هذا كلّه، يبقى أنّ أكثريّة الأكراد الساحقة صوّتت لمصلحة الاستقلال. هذه الحقيقة لا يمكن تجاوزها واعتبار أنّها لم تكن.

ما يقال في قيادات بغداد أفدح. والمدهش أنّ الأبعاد الخطيرة جدّاً للدور الإيرانيّ الأخير لم تحظَ بما تستحقّه من عناية، بل من استنفار. فكأنّ «الإنقاذ» الإيرانيّ صار أمراً بديهيّاً لا يستدعي التعليق عليه في دول كرتونيّة وفي مجتمعات كرتونيّة. لقد جاء في الخبر الرسميّ أنّ حيدر العبادي أمر الميليشيات الطائفيّة بمغادرة كركوك. الخبر الفعليّ أنّ تلك الميليشيات التي تحرّكها طهران صار يمكنها، ساعة تشاء، أن تأمر العبادي بمغادرة بغداد. ذاك أنّ دور إيران الأخير يعادل الانكشاف الوطنيّ العراقيّ كما نمّت عنه مواجهة كركوك.

التجربة تستدعي المراجعة العميقة والنقد الجذريّ الذي يعود بها إلى ساعة التأسيس في 2003. آنذاك باشرت القيادات الشيعيّة التي حلّت محلّ صدّام حسين، تسليم أمر العراق إلى إيران. آخر «ثمار» هذه التجربة ثلاث: أنّ الوطنيّة العراقيّة صارت إحدى الصناعات الإيرانيّة الخفيفة. وأنّ الطرفين العراقيّين، الشيعيّ والكرديّ، اللذين مثّلا ركيزة المعارضة لصدّام، دخلا حقبة العداء المفتوح الذي قد تزيّنه «حوارات» سخيفة. وأنّ ما يسري على العراق ككلّ يسري على مكوّناته واحداً واحداً. في ظلّ هذه الشراكة في التفتّت، لن يُتاح أيّ مكان للقضايا مهما كانت عادلة. ينهار العراق ولا تنشأ كردستان. ينهار العراق ولا ينشأ شيء. هناك إيران وهناك أطياف «مسّ بيل» البعيدة.