IMLebanon

قلق مسبق من انتخابات لبنان

 

كان الشاعر الكبير سعيد عقل يقول «إن الكون يبدأ بلبنان!…» وكان شاعر آخر معارض له يكمل فيقول «وينتهي بزحلة… (مسقط رأس الشاعر الأول)».

وفي 21- 22 شباط (فبراير) الماضي كان رئيس الجمهورية اللبنانية الجنرال ميشال عون في زيارة رسمية لجمهورية أرمينيا، وقد خاطب مستقبليه، وكان بينهم جمهور لبناني كبير من أصل أرميني في وطنه الأم قائلاً: «إن لبنان وطن كوني يغتني بتعدديته الثقافية والعلمية».

والواقع أن اللبنانيين، كما الأرمن، منتشرون في أنحاء العالم، ومنهم من تبوأ منصب رئاسة الجمهورية في وطنه «الثاني» الذي صار «الأول»، أما على المستوى النيابي والوزاري، والحزبي، فالبعض من اللبنانيين يُصنّف بين الأوائل المميزين في الولايات المتحدة الأميركية، ودول أخرى كبرى، منها كندا، والمكسيك، والبرازيل، والأرجنتين، وفنزويلا، وسائر دول أميركا اللاتينية، وصولاً إلى أوروبا، ومنها فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا.

وأما في المملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج العربي، فاللبنانيون باتوا من «الجيران» والأهل المقيمين العاملين في مختلف المهن والاختصاص، والعلم، والتجارة.

وللبناني أن يتساءل، وإن على سبيل التخيّل: ماذا يحدث في لبنان إذا فتحت دول الخليج وأميركا وأوروبا الأبواب أمام الشباب اللبنانيين للهجرة؟ ومن يبقى في لبنان، خصوصاً من أجياله التي تتخرّج على دفعات، أفواجاً وراء أفواج، وسنة بعد سنة، مزوّدة علوم العصر، وطموح الكفاح للتقدم والتطور والتميّز؟

ثم كيف للبنان، الدولة والمؤسسات، أن توفر لهذه الأجيال، وعداً، أو أملاً، مجرّد وعد أو أمل، بأن لها مستقبلاً، أو ضمانات بالحد الأدنى من شروط العصر؟

وعلى هذه الحال يُدعى اللبنانيون إلى انتخابات نيابية فتذكرهم الدعوة بأن نوابهم انتهت مدة صلاحيتهم منذ سنوات، ولا بدّ من التجديد لأكثريتهم حفاظاً على شكليات الشرعية الدستورية.

لكن قبل شهرين من موعد الانتخابات المحدد في السادس من أيار (مايو) المقبل أعلنت كتلة نيابية حزبية كبرى ترشيحات أعضائها في بيروت العاصمة وبعض المناطق، ومع نشر أسماء المرشحين انهالت عليهم التهاني بفوزهم المسبق.

ومع اكتمال لوائح المرشحين، ثم إجراء الانتخابات وإعلان النتائج، قد يتبين أن الفائزين مسبقاً، ولاحقاً سيشكلون الكتلة الأكبر في مجلس النواب (الجديد) مع من ينضم إليهم من الحلفاء في السياسة وفي المصالح المشتركة والمتبادلة، فيكون لهم القرار، ولا يبقى أمام الكتل من النواب الآخرين سوى خيار الانضمام إلى «البلوك» الصاعد والصامد، أو الانكفاء إلى المعارضة التي ستتحول «جبهة صوتية» في فضاء فوضى «الديموقراطية» اللبنانية.

ثم هناك التطور الجديد الطارئ على عملية الانتخابات النيابية، والمتمثل بمشاركة المغتربين بالاقتراع من مدن إقامتهم. فمن سيشرح لهم علّة الوطن الأم في سياسته، وإدارته، واقتصاده؟، ومن سيوضح لهم أن المرشحين، كما المقترعين، لا يزالون موزعين على طوائف ومذاهب، ولكل طائفة حصّة تزيد، أو تنقص، عن حصة طائفة أخرى، وأن لكل مذهب وظائف محددة ليست من حق مذاهب أخرى؟!

وكيف سيطّلع المغتربون في المقلب الآخر من الكرة الأرضية على برامج مرشحيهم، ومن سيشرح لهم مشاكل لبنان، ومتاعبه، وأسباب علّته في السياسة، والإدارة، والاقتصاد، والخدمات المدنية؟. ومن سيوضح لهم أن طموحات أهلهم في الوطن البعيد بسيطة، ومتواضعة، لكنها صعبة على الدولة، وهي لا تزيد عن مياه كافية ونظيفة في بلاد الينابيع والأنهر التي تملأ حوض البحر الأبيض المتوسط؟ وكيف يصدقون أن الكهرباء بالساعة، والمصدر بواخر أجنبية راسية في البحر، والبحر يستوعب؟

من اليوم حتى موعد الانتخابات النيابية اللبنانية شهران حافلان بالتوقعات. وإذ يصعب على المراقب والمتابع أن يتنبأ بالنتائج يمكنه أن يتوقف مع رئيس الحكومة سعد الحريري في كلمته أمام مؤتمر «أراب نيت» الذي عقد في بيروت يومي 21 و22 شباط (فبراير) الفائت، وقد كان الوضع الداخلي ثقيلاً وصعباً على الحريري. ومع أنه قال مخاطباً هيئة المؤتمر «إن من يأتي إلى هذا المكان يصبح لديه أمل أكبر بهذا البلد»، لم يكن في وسعه أن يطلق وعوداً لا يضمن تنفيذها، لذلك عمد رئيس الحكومة إلى التورية فقال: «من وسائل التكنولوجيا هناك الاستنساخ. وإذا أصبح لدينا في لبنان ذكاء اصطناعي فأول ما يمكننا تحقيقه هو منع الفساد، فيصبح بلدنا متطوراً للغاية». وأضاف: «لكن المشكلة أن السياسيين عندئذ سيختلفون في ما إذا كان هذا الذكاء الاصطناعي سنيّاً، أو مارونيّاً، أو أرثوذكسياً، أو غيره»!

ويبقى «الفساد» الدمغة السوداء على جبين الدولة اللبنانية منذ الاستقلال، وقد حاول رؤساء سابقون محو تلك الدمغة لكن محاولاتهم توقفت عند حد.

ويحق للرئيس ميشال عون، كما كان يحق لكل رئيس لبناني قبله، أن يقول أن الفساد علّة وُلدت مع الكيان اللبناني منذ تأسيسه. لكن العلّة ليست، ولم تكن، في صلب الكيان، إنما كانت ولاتزال في ذهنية وظيفة سياسية إدارية انتهازية تعتبر أن نهش الدولة حق وحلال لمن يعتبر الدولة غنيمة، إن لم يأكلها أكلته! ومن هنا صعوبة تطهير الإدارة من جرثومة الفساد. ومع ذلك لا بدّ من اجتراح معجزة.

وبالعودة إلى قانون الانتخاب اللبناني الجديد، تجدر الإشارة إلى أكثر من لغم يصعب اكتشافه باعتماد مبدأ «النسبية» و «الصوت التفضيلي».

وهذه مصطلحات غريبة ومعقدة تثير القلق المسبق، والمشروع، على سلامة العملية الانتخابية. ومع المزيد من الشرح والتفصيل يبقى الغموض في صلب ما يسمى «مفهوم الرأي العام». لكن هذا «الرأي العام» بات على شبه اقتناع بأن «البلاغ الأول» صدر، وفحواه: «أيها اللبنانيون، أولئك هم نوابكم… فانتخبوهم!».

أمام هذه الوقائع والمستجدات، في مرحلة التحضير للانتخابات النيابية، بات معظم اللبنانيين على اقتناع شبه ثابت ودائم بأن موعد التغيير والتقدم نحو الديموقراطية، والعدالة والوحدة الوطنية والمساواة، كان بعيداً، وصار أبعد. فقد مضى زمن كان اللبنانيون يخوضون فيه معاركهم السياسية والانتخابية، وكأنها معركة كل فرد في العائلة، سواء كانت العائلة سياسية، أو متحزبة لزعيم تنتمي إليه تقليدياً، ولا تسأله عن سياسته وعن مشاريعه ومبادراته ليستحق الثقة بتوكيله عن الشعب.

قبل ست وعشرين سنة، وتحديداً في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 1992، واجه رئيس الحكومة آنذاك المغفور له رفيق الحريري مجلساً نيابياً منتخباً جديداً، وكان بين أعضائه عدد كبير من ذوي الاتجاهات السياسية اليمينية والعلمانية والعقائدية، وقد جعل الحريري عنوان بيان حكومته لنيل الثقة شعار «التحرير والمواجهة مع إسرائيل»، أما المضمون فكان مشاريع إنمائية، واقتصادية، وإصلاحية، وخدمات أهمها الكهرباء، والهاتف، والمياه، والطرق، ووسائل النقل العام، فنال ثقة نيابية وشعبية بمعدل كبير.

وبعد 26 سنة، وعقب الانتخابات النيابية المنتظرة في 6 أيار المقبل، ليس مستبعداً إن يكلف سعد الحريري تشكيل حكومة المجلس الجديد والعهد الجديد.

وليس مستبعداً أن يكون نص مقدمة بيان الثقة بحكومة ما بعد الانتخابات الآتية، هو بالتمام نص مقدمة بيان حكومة 1992. أي مشاريع الإنماء والإصلاح والمياه والكهرباء!!… أي ست وعشرين سنة، ولبنان إلى الوراء!