هل يمكن فعلاً تشكيل رافعة دولية بديلة، يمكن أن تبدأ مرحلة جديدة في مساعي التسوية السلمية، وإحياء حطام قرارات الشرعية الدولية حول النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، والسعي إلى تطبيق مبدأ قيام الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية؟
ليس كافياً أن يقول محمود عباس بعد قرار دونالد ترمب نيته نقل السفارة الأميركية إلى القدس، إن الولايات المتحدة لم تعد مؤهلة لرعاية عملية السلام، فمنذ زمن بعيد كان أبو مازن وغيره من الفلسطينيين والعرب أجمعين، يعرفون أن الوساطة الأميركية ليست أكثر من عملية لكسب الوقت، في حين كانت إسرائيل تمضي دائماً في سياسة الاستيطان التي تخلق واقعاً جغرافياً وديموغرافياً، عبر توسيع نطاق سيطرتها على الأراضي الفلسطينية.
لا داعي إلى التذكير بكل المراحل التي أكدت عملياً عدم أهلية الولايات المتحدة في هذا المجال، فعلى سبيل المثال عندما كان ترمب قبل أشهر قليلة يتحدث عن «الصفقة الكبرى» في الشرق الأوسط، أي عن تسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، كان صهره جاريد كوشنير صديق نتنياهو الحميم، والذي عينه رئيساً لفريق مساعي هذه التسوية، يبلغ الرئيس الفلسطيني في رام الله أنه «لا يمكن وقف الاستيطان الإسرائيلي؛ لأن ذلك سيؤدي إلى انهيار حكومة نتنياهو»، هكذا بالحرف، وكأن حكومة نتنياهو حمامة سلام، أو كأن الاستيطان يمكن أن يساعد في التسوية.
وللتذكير، وعلى سبيل الموضوعية، مرة واحدة حاولت الوساطة الأميركية أن تعالج مسألة القدس التي تبقى محوراً أساسياً في النزاع، وذلك خلال محادثات «كامب ديفيد 2»، في 27 يوليو (تموز) من عام 2000؛ لكن بيل كلينتون أعلن يومها بأسى فشل المفاوضات، عندما رفض ياسر عرفات بشجاعة وحكمة مشروع كلينتون – باراك، رغم أنه تضمن اعترافاً إسرائيلياً بالحقوق الفلسطينية في القدس؛ لأن الاعتراف جاء منقوصاً ومشروطاً بتنازلات خطيرة، ولا ينص على سيادة كاملة على الأحياء الفلسطينية في القدس، إنما مجرد حكم ذاتي تحت السيادة الإسرائيلية، إضافة إلى أنه يفرض هذه السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى بحجة «حائط المبكى».
ومنذ ذلك الوقت لم تتمكن الدبلوماسية الأميركية من أن توقف جرافة إسرائيلية عن هدم بيت فلسطيني واحد في القدس وغيرها، فعشية كل زيارة لوزراء الخارجية الأميركيين إلى فلسطين المحتلة، كانت الحكومات الإسرائيلية تقرّ إنشاء مجموعات جديدة من الوحدات الاستيطانية، التي حفرت قبراً عميقاً للتسوية التي دفنها ترمب عندما قرر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وكان الكونغرس أقر هذا عام 1990؛ لكن الرؤساء الأميركيين وضعوه في الاستيداع ولم يوقعوه.
ولكن إلى أين من هنا الآن، وهل يمكن فعلاً إيجاد بديل للولايات المتحدة مؤهّل لإحياء عملية التسوية، إما عبر عزل الموقف الأميركي، بحيث يبقى قرار ترمب وحيداً فلا تتبعه قرارات من دول أخرى، وإما بدفع ترمب لتجميد قراره، وإما بخلق إطار دولي يرسم مساراً جديداً على قاعدة احترام الشرعية الدولية، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة؟
الرئيس محمود عباس يركّز محادثاته واتصالاته مع زعماء المنطقة والدول المهتمة بتسوية النزاع، على ضرورة بلورة اتجاه بديل لمستقبل العملية السياسية، وحشد موقف عربي وإسلامي قوي للضغط وتعطيل قرار ترمب، ومحاولة وضع آلية دولية جديدة تشبه مثلاً صيغة مجموعة «5+1» التي عملت للوصول إلى الاتفاق حول الملف النووي الإيراني.
الإجماع العربي والإسلامي والدولي على رفض قرار ترمب، يوفّر مناخاً مساعداً، ليس لعزل الدور الأميركي في الحل؛ بل لإيجاد مخرج يساعد ترمب على التراجع من خلال المجموعة الدولية. وفي السياق جاء الموقف الصيني مساعداً، عندما أعلن وزير خارجيتها ونغ يي هو، أن بلاده مستعدة لاستضافة مؤتمر سلام للنزاع العربي الإسرائيلي نهاية السنة.
طبعاً ليس ممكناً تحديد الأطر وجدول الأعمال في خلال أسابيع قليلة لعقد مؤتمر جاد، يستطيع فعلاً أن يرسم مساراً جديداً للتسوية؛ لكن الإعلان الصيني مهم؛ لأنه يتلاقي مع تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين الذي دعا من القاهرة بداية الأسبوع، بعد محادثاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى مفاوضات مباشرة فلسطينية – إسرائيلية حول كل القضايا المتنازع عليها، بما فيها طبعاً القدس، معتبراً أن هناك ضرورة ملحة لاستئناف فوري للمفاوضات، ولا بد من اتفاقات للسلام عادلة وطويلة المدى تحقق مصالح الطرفين، ومكرراً أن موسكو تعتبر أن كل ما يستبق نتائج هذه المفاوضات عديم الجدوى.
السيسي تعمّد التذكير بأهمية الدور الروسي في تسوية النزاع، وخصوصاً في حقبة التعاون بين موسكو وواشنطن في هذا الموضوع، معتبراً أن روسيا بذلت دائماً جهوداً حقيقية لتسوية القضية الفلسطينية، سواء في شكل منفرد أو في إطار الصيغ الدولية التي تم تشكيلها سابقاً، كالرباعية الدولية، والتعاون الثنائي مع أميركا في وقت سابق.
الموقف الأوروبي الرافض للقرار الأميركي بنقل السفارة، بدا صافعاً لنتنياهو الذي زار باريس وبروكسل والتقى وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، في محاولة لدفع الأوروبيين إلى أن يحذوا حذو ترمب، ففي باريس سمع من إيمانويل ماكرون كلاماً واضحاً عن ضرورة الحل العادل في إطار قرارات الشرعية الدولية وإقامة الدولة الفلسطينية، وفي بروكسل عندما قال: «إن قرار ترمب لا يمنع السلام؛ بل يجعله ممكناً؛ لأن الاعتراف بالواقع هو جوهر السلام»، جاءه الجواب من فيديريكا موغيريني حاسماً وصافعاً فعلاً، مع ابتسامة ساخرة: «نحن في الاتحاد الأوروبي نعتقد أن الحل الواقعي الوحيد للنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين يستند إلى دولتين، مع القدس عاصمة للدولتين وفق حدود 1967. هذا موقفنا المعزز وسنواصل احترام التوافق الدولي إلى أن تتم تسوية وضع مدينة القدس بالتفاوض»، وهذا لا يعني إقفال الباب الأوروبي في وجه أي محاولة للحاق بقرار ترمب؛ بل أيضاً يعني رفضاً صريحاً لهذا القرار.
من العجيب أن واشنطن سارعت إلى إعلان الأسف؛ لأن الرئيس الفلسطيني رفض لقاء مايك بنس خلال جولته في المنطقة الأسبوع المقبل، على خلفية أن «كل الاتصالات أصبحت مقطوعة مع الولايات المتحدة» كما قال عزام الأحمد، معتبرة أن السلطة الفلسطينية تضيّع فرصة، هكذا بالحرف: «تضيّع فرصة!» مناقشة مستقبل المنطقة، و«أن الإدارة الأميركية مستمرة في جهودها للمساعدة على تحقيق السلام، وفريقنا لا يزال يعمل بجد لوضع خطة»!
وضع خطة؟ وهذه أيضاً خطة غريبة عجيبة؛ لأن واشنطن ستقترح منطقة أبو ديس في ضاحية القدس، عاصمة بديلة للفلسطينيين من القدس الشرقية، وهذا لن يمرّ؛ لكن يبقى المطلوب فعلاً بناء آلية دولية، إن لم تصنع حلاً عادلاً، تحاول أن تعزل وتسقط موقفاً مخرّباً ينسف آخر فرص التسوية السلمية لأطول أزمة في العالم!