لم تحقّق التسوية الرئاسية التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وبالشيخ سعد الحريري رئيساً للحكومة، التوازن المطلوب في المسؤوليات والصلاحيات بين ركني السلطة التنفيذية، كما أبقت القرار الوطني في يد «حزب الله» مستنداً إلى دعم حليفه عون، ما جعل الحريري في موقع الشريك الضعيف في التركيبة الثلاثية التي بُنيت على أساسها التسوية الرئاسية والذي كان الحزب الطرف الثالث فيها.
ونستخلص في قراءة لاستقالة الرئيس الحريري من رئاسة الحكومة والعودة عنها الأمور الآتية:
1- كانت استقالة الحريري متوقعة لأسباب داخلية، نتيجة ما تعرّض له من مضايقات وتهميش لشخصه ولموقع رئاسة مجلس الوزراء من وزراء العهد وحلفائه، ومن تنازلات مؤلمة كان يُجبر عليها في سبيل الحفاظ على استقرار البلد.
2- أتت الاستقالة من الرياض مفاجئة للجميع، وبغض النظر عن شكلها، كان مضمونها واضحاً يتمحور حول مشاركة «حزب الله» في تنفيذ سياسة إيران التوسعية في الإقليم وتدخله في شؤون دول مجلس التعاون الخليجي وإثارة الفتن فيها وتهديد أمنها واستقرارها ووحدة مكوّناتها الوطنية، وتدريبه ميليشيات الحوثي وتزويدهابالخبراء والمقاتلين، وتدريب المعارضة البحرينية ومدها بالسلاح، وهجوم أمينه العام حسن نصر الله المتواصل على قيادات دول الخليج وفي مقدمها المملكة العربية السعودية.
3- أثبت الحريري أنّ لديه حماية عربية ودولية، ويتمتع بشبكة علاقات إقليمية ودولية قوية لا يتمتع بها أيّ من المسؤولين في لبنان. وأنّ وجوده في رئاسة الحكومة اللبنانية ضروري للاستقرار بكل أوجهه السياسية والأمنية والاقتصادية. الأمر الذي يساهم في إعادة الاعتبار إلى شخصه وإلى موقع رئاسة مجلس الوزراء، ويتيح له في الوقت ذاته الحصول على تقديمات وتنازلات من شركائه في التسوية والحكم.
4- استعاد الحريري في شهر الاستقالة والتريّث عنها ما كان خسره على الصعيد الشعبي في سنة من انخراطه في التسوية الرئاسية مع العماد عون وفي حكومة شراكة مع «حزب الله». وبعد أن كانت شعبيته في مسار انحدار باتت في مسار صعود، الأمر الذي يريحه كثيراً في الانتخابات النيابية المقبلة، شرط أن يعمل على استثمار هذا الصعود وتعزيزه من خلال التواصل الدائم مع قواعده الشعبية ومع المخلصين من أبناء طائفته، وتحقيق مطالب طائفته وتعزيز مكانتها على الساحة اللبنانية، فطائفته هي أساس قوته وزعامته.
5- واللافت للاستغراب دخول السيد بهاء الحريري على خط الأزمة وطرح نفسه زعيماً للطائفة السنّية مكان شقيقه سعد، ويعود الاستغراب إلى أن بهاء لم يتعاطَ في حياته الشأن الوطني أو العمل السياسي، فالزعامة ليست هبة بل هي نتيجة مسيرة طويلة من العمل الوطني والاجتماعي.
6- ساهمت فرنسا ومصر في التوصّل إلى البيان الذي أقرّه مجلس الوزراء في جلسته الاستثنائية، مجدّداً فيه تأكيد التزام الحكومة اللبنانية بكل مكوّناتها السياسية النأي بنفسها عن أيّ نزاعات أو صراعات أو حروب أو عن الشؤون الداخلية للدول العربية، حفاظاً على علاقات لبنان السياسية والاقتصادية مع أشقائه العرب، وتجديد تمسّك لبنان باتفاق الطائف والتطلع إلى أفضل العلاقات مع الأشقاء العرب وأمتنها. وبذلك يكون الحريري قد حصل على ما طمح إليه من الاستقالة وحقّق جزءاً من أسبابها، الأمر الذي جعله يعود عنها.
7- لم يتطرّق البيان إلى سلاح «حزب الله» كونه باعتراف كل الأطراف السياسيين سلاحاً إقليمياً، ومعالجته تكون على المستوى الإقليمي والدولي. لكن الركون إلى المعالجات الخارجية يُبقي السلاح مصلتاً فوق رؤوس اللبنانيين وجاهزاً للاستخدام عندما تجد طهران ضرورة لذلك. والمطلوب أن يعمل المسؤولون على استراتيجية دفاعية يكون فيها قرار الحرب والسلم في يد الدولة.
8- أكد اجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان في العاصمة الفرنسية الذي كان للرئيس الفرنسي مانويل ماكرون دور بارز في انعقاده على انتهاء الأزمة الناجمة عن تدهور العلاقة السعودية بالحريري وبلبنان، وعلى دعم لبنان والتشبث باستقراره، والتمسّك ببقاء الحريري الذي يعتبر شريكاً للمجموعة على رأس الحكومة اللبنانية.
وأفصح بيان المجموعة عن رسالة مزدوجة الدلالة: ليس لأيّ طرف لبناني التدخّل في الشؤون الداخلية العربية، وليس لأيّ دولة إقليمية التدخّل في الشؤون اللبنانية الداخلية. وهي رسالة تعني إيران والسعودية. والمستغرب مساواة المجموعة بين السعودية التي تدعم لبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً، وبين إيران التي تركّز جهودها على تسليح «حزب الله» ومساعدته في السيطرة على القرار الوطني، وتوريط البلد في أزمات إقليمية تزيد من معاناة اللبنانيين وتربك علاقاتهم بدول الخليج العربي. ومطالبة المجموع ةبتطبيق القرارين 1701و 1559 وإعلانها بأن الجيش اللبناني هو القوات المسلحة الشرعية الوحيدة في الدستور وفق اتفاق الطائف هما بمثابة إسقاط لثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة».
وخلاصة القول إنّ السعودية حقّقت ما أرادته من وراء استقالة الحريري، وهو ابتعاد «حزب الله» عن التدخل في اليمن وعن مساندته الحوثيين في حربهم ضدها وضد الشرعية اليمنية.
9- ويبقى السؤال: هل يلتزم «حزب الله» ببيان النأي بالنفس أم إنّه سيحنث به كما فعل سابقاً مع «إعلان بعبدا» الذي وقّعه ثم أخلّ به. وأول بوادر الخروج عن القرار تصريح نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم الذي جدّد فيه من طهران هجومه على السعودية وداعياً الكفّ عن التصرف كل في بلده وكأنه غير معني بالآخرين.
والأمر الآخر المثيرللريبة زيارة قائد ميليشيا «عصائب أهل الحق» العراقية قيس الخزعلي الحدود اللبنانية الجنوبية بلباسه العسكري برفقة قياديين من «حزب الله». وتعتبر الزيارة رسالة خطيرة من طهران بأنهالن تتورع عناستخدام الجنوبكورقة للدفاع عن مصالحها.
وأخيراً، هل بإمكان الرئيس الحريري الذي أخذ على عاتقه رهان عدم خروج أيّ مكوّن في الحكومة عن الالتزام في قرار «النأي بالنفس»، إلزام «حزب الله» التقيد بالقرار إذا فرضت عليه طهران الخروج منه؟