Site icon IMLebanon

إستفتاء في العراق وإستفتاء في لبنان

 

يقفز الكرد الى المجهول في مغامرتهم لفتح كوَّة في جدار سايكس بيكو التي يبدو أنها اكتسبت مناعة جديدة، بعد عودة الشريك الروسي المؤسس وزير خارجية الأمبراطورية الروسية سيرغي سازونوف ممثْلاً بالرئيس فلاديمير بوتين، وبعد انتقال التركة الفرنسية البريطانية الى الوارث الأميركي. إصرار كرد العراق على الإنفصال أو على الإستفتاء على الإستقلال، كما يفضلون تسميته، لم يأتِ من فراغ بل من تراكم عناصر قوة على امتداد سنوات واكبت صعود داعش في كلْ من سوريا والعراق. تصاعُد الخطاب المذهبي في العراق على مستوى أهل الحكم واستشراء الفساد، انهيار وحدات الجيش وإطلاق يد إيران ونشوء الحشد الشعبي تحت عنوان ملء الفراغ الأمني ومواجهة الإرهاب وتمدد البشمركة الى خارج الإقليم لمحاربة داعش، كلها عوامل اجتمعت لإنضاج مناخٍ مؤاتٍ لفكرة الإستقلال.

في طموح الأكراد لتحقيق الحلم التاريخي الكل وجد ضالته. تمدد النفوذ الإيراني ليمعن في إضعاف العراق وليزيد هشاشة فدراليته وتحلل ما تبقى من وحدته، وتمدد النفوذ التركي تحت عنوان حماية التركمان الذين تعود معاناتهم في العراق الى أكثر من تسعة عقود. استثمر الأميركيون في الكرد في كل من سوريا والعراق، وسمحوا بتمددهم خارج الإقليم نحو المناطق المتنازع عليها، ومنحوهم الدور الطليعي في الحسكة والرقة ودير الزور مقابل إقصاء الأتراك والمعارضة السورية عن أي دور في شمال شرق سوريا. تعامل الأميركيون مع الكرد على قاعدة الحليف فأغراهم التمركز على ضفة الفرات بمواجهة الجيش السوري ومن خلفه التحالف الروسي والميليشيات الإيرانية.

ترجمة المكاسب العسكرية الكردية وتحويلها الى واقع سياسي جديد لا تبدو ممكنة. فحساب الحقل العراقي لم يطابق حساب البيادر الإيرانية والعراقية والسورية. بدت التحالفات الظرفية الكردية كتحالفات غب الطلب معدومة الأفق، حيث تحولت بشكل متسارع الى إجراءات عدائية منسقة، ليس أقلها التهديد باقفال الحدود وإقفال المجالات الجوية ومباشرة المناورات المشتركة التركية العراقية. هذا الى جانب دعوة أميركية صريحة لوقف الإستفتاء والعدول عن فكرة الإنفصال.

في لبنان كذلك إستفتاء ولكن من نوع آخر، وبأدوات مختلفة. الإستفتاء اللبناني موضوعه اتفاق الطائف والصلاحيات وأدواته ليست صندوقة الإقتراع بل مبارزة بين المؤسسات وتجاوزات وتهميش متعمد.

المشهد اللبناني الحالي هو مشهد متجدد منذ التصديق على وثيقة الوفاق الوطني، وهو سابق على المشهد العراقي. عبثُ النظام السوري وإمعانه في تشويه الحياة السياسية عطل اللعبة الديمقراطية وأوقف تطبيق الإصلاحات التي تلغي الطائفية السياسية وذوب مشروع بناء الدولة. لطالما إعتقد « كُرد المعادلة الطائفية في لبنان» كلٌ وفق نقطة ضعفه وطيلة فترة الوصاية أن الوقت قد حان للإنقضاض على التسوية. الإنتخابات النيابية والنقابية والحكومات المتعاقبة في فترة الوصاية السورية قدْمت نموذجاً عن الإستخدام العبثي للمكونات السياسية الحالمة وانعكاساته على الحياة السياسية والوطنية. التحول الكبير الذي أحدثه اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يتمكن من احداث صدمة إيجابية في الحياة السياسية لصالح إقامة الدولة الوطنية بل استمرت محاولات تعزيز النفوذ الإقليمي عبر معادلة الداخل اللبناني.

التسوية السياسية التي أتت بالعماد عون رئيساً للجمهورية وفق شروط أصبحت معروفة، تحولت تدريجياً الى منصة لإحداث كوة في جدار الطائف تمهيداً لإعادة لبنان الى المربع الأول. يحلم بعض المتوترين أنْ العودة الى دستور ١٩٢٦ ممكنة، إن لم يكن بالنص فبتكريس عددٍ من الممارسات وتحويلها إلى أعراف وإلى تقاليد في الحكم. النيل من موقع مجلس الوزراء ودوره في وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على أعمال أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وأمنية وعسكرية بلا استثناء (المادة ٦٥ من الدستور)، والتعامل معه وكأنه أحد أجهزة رئاسة الجمهورية يتم عبر إرساء نوع من ازدواجية المواقف بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في القضايا الهامة لا سيما تلك المتعلقة بالملفات الوطنية والإقليمية.

تشكيلة الوفد الرئاسي الى كل من الأمم المتحدة وفرنسا الذي غلب عليه الطابع العائلي والحزبي وإطلاق المواقف عبر الإعلام أو في اللقاءات الرسمية في ما يتعلق بسلاح حزب الله، وإعادة العلاقة مع النظام السوري من بوابة عودة النازحين السوريين بعيداً عن الإجماع الحكومي، إنما يعبر عن إتجاه خطير لرفض قواعد الحكم التي نص عليها الطائف واستفتاءً فوقياً من قبل أهل الحكم على الدستور. كما إن تأبط ملف مسيحيي الشرق دون غطاء إقليمي أو من خلال المنظمات الدولية إنما هو قفزة في المجهول تأخذ لبنان الى مواجهات غير محسوبة.

إن اتفاق الطائف هو اتفاق دولي لا يقل أهمية عن اتفاقية سايكس بيكو كل الأطراف ملزمة باحترام قواعده. صحيح أن هناك الكثير مما يؤكّد مدى فداحة ما عاشه الكرد تحت سلطة نُظم ونخب استبداديّة وفاسدة وغاشمة ولكن كل ذلك لا يكفي لولادة دولة جديدة. كذلك إن إثارة المنابر وأحياناً بشكل غريزي في أصقاع الأرض وإعطاء دروس غير واقعية في الفرادة والتفاني لن يؤدي إلى استلهام دستور جديد فالزمن غير مؤاتٍ لتحقيق أمنيات كرد العراق و«كرد المعادلة الطائفية في لبنان».