الوضع اللبنانيّ في مفترق. فبعد شهور طويلة من محاولة تمرير غلبة «حزب الله» كما لو كانت واقعة محسومة نهائية، ليس على اللبنانيين من خارج جهاز الحزب وبيئته غير التطبّع معها، وبعد الترويج لإنطباع مختصره أنّ ثمّة إجماعاً ضمنيّاً بين كافة الدول الإقليمية والدولية، أيّاً كان موقفها من الحزب، وأيّاً كان خطابها بصدده، بالتسليم بسيطرته على لبنان، دخلنا في لحظة دولية – إقليميّة جديدة، تسلّط الضوء أكثر من الفترة الفائتة على الأوضاع اللبنانيّة، وتتطور باتجاه «تعريب وتدويل» المشكلة التي يرمز اليها لبنانياً بعنوان «السلاح»، إنّما لتكثيف مضامين كثيرة.
من جهة، تأتي هذه اللحظة لتظهر ما يخالف الجو الذي ساد في الفترة الأخيرة، بأنّ كوكب الأرض تطبّع بشكل لا رجعة فيه مع سيطرة «حزب الله» على لبنان، ومن جهة أخرى، لا تحتوي اللحظة الدولية – الإقليميّة الحاليّة على إطار واضح يطرق باب هذه المشكلة، أو مجموع المشكلات التي عنوانها «السلاح» وحروبه العربية وارتباطه الإيرانيّ، بالتوازي مع وعي الحيثية الأهلية والجماهيرية لـ «حزب الله»، يطرقها بالشكل الذي يمهّد السبيل للخطوات الأولى على طريق معالجتها وحلّها.
وهذا ما يجعلها «لحظة مأزقية» بامتياز بالنسبة إلى الجميع. فقبل السؤال اليوم «الكرة في ملعب من؟» يبدو الملعب بكرات متعددة، إنما لا يظهر أنّ فيه أي مرمى. ليس بمستطاع أحد، الحزب أو من حالفه أو من في موازاته من القوى، المكابرة على أنّنا في لحظة، مع نهايات هذا الخريف، لا تقارن بما انتهى عليه الصيف الماضي. لن يسحب موضوع «حزب الله» وتدخلاته في الإقليم من مساحة الضغوط العربية والدوليّة ما لم يتم الدفع نحو إعتماد مبدأ «النأي بالنفس» وآليات فعلية لتطبيقه وصيانته. صحيح أنّه ليس هناك حتميات في هذه المسائل، لكنّ الطرف الأكثر صعوبة على تقبّل أي تنازل في هذا الشأن اليوم هو طرف «حزب الله»، وايران من ورائه، في ما يعني دعمها وإمدادها له. فلا أحد يتراجع إلا في واحدة من حالتين، إمّا أن يكون مرغماً بالفعل على التراجع، وإمّا أن يحصل في مقابل تراجعه على ثمن لهذا التراجع، أو على ضمانات تجعل هذا التراجع أقلّ وطأة في صورته الخارجية. وكلّ هذا يقارب المستحيل في الظروف الراهنة. ما يمكنه أنّ يفتح ثغرة في «جدار المستحيلات» هو خروج القوى التي عندها «مشكلة» بوتائر مختلفة مع الحزب في الداخل اللبناني من حالتها الراهنة.
فهذه القوى، وبعد أن ظهر لسنوات طويلة أنّها تجتمع على مناوأة خط غلبة الحزب على البلد، صارت تفتقد، لنقل منذ الإختلاف على قانون الإنتخاب و»التاكتيكات» المختلفة لوضع حد لحالة الشغور الرئاسي، إلى استراتيجية موحدة في موضوع «حزب الله» وكيفية التعاطي مع انعدام التوازن المتعاظم لصالحه، وكيفية التأسيس لخطاب جديد، قادر على الربط بين مشكلة «حزب الله» وبين برنامج وطني لحل المسألة اللبنانية التي لم يكن بإمكان الجلاء السوريّ وحده أن يحلها. فبدلاً من الربط بين منطق المواجهة وبين نظرة متمسكة بفكرة «المصالحة بين اللبنانيين» كي تشمل كذلك الأمر المصالحة بين كل هذه الحالة التي يمثلها «حزب الله» وبين باقي اللبنانيين، إنّما على قاعدة تعيد الإعتبار لمفهوم الدولة، ومركزية قواتها المسلحة الشرعية، وضرورة استعادتها لحصرية السلاح في منظار برنامجي جديّ، يتكامل بسدّ كل الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها أي تهديد لأي جماعة لبنانية، وخصوصاً من جانب العدو الإسرائيلي، بدلاً من الربط بين منطقة المواجهة وبين مشروع المصالحة الشاملة والسلام اللبناني الدائم، أي معالجة كل من الشرخ الحاصل في المجتمع اللبناني، وحالة الغلبة الفئوية على المجتمع والدولة، والمتدخلة فئوياً أيضاً في أوضاع بلدان عربية أخرى، فقد حدث العكس. بدلاً من تطوير استراتيجية موحدة، يمكن بعدها أن تميّز في الناس بين صقور وحمائم، دخلنا في دهاليز لا آخر لها من المزايدات هنا، ومن الإستسهال هناك. والأسوأ، الناس، والنخب الأهلية أي آلاف الكوادر الفاعلة في سنوات الحراك الجماهيري لـ 14 آذار، تراجع دورها في الفترة الماضية، وإعادة الإعتبار لدورها اليوم، بدلاً من حصر «السياسة في الكواليس» بات حيوياً إذا ما أريد البحث عن استراتيجية جديدة للقوى التي عندها مشكلة مع سلاح «حزب الله»، والتفاهم تحت إطار هذه الإستراتيجية على أنّه يمكن أن يكون هناك صقور وحمائم فيها، وأنّه لا بدّ أن تتسع لمستويات عدّة من التعاطي. هي الحالة «المؤتمرية» المفقودة اليوم، والتي إن جرى التحرّك نحوها، فتحت بالفعل ثغرة داخلية حقيقية في جدار المستحيلات، وأصبح للملعب مرمى.