بعد أكثر من عقد على المماطلة، ولا تزال ولكن بصورة مقنّعة، وبعد تحوّل حكومة نجيب ميقاتي إلى حكومة تصريف أعمال مبتورة الصلاحيات ومنقوصة الدستورية، ومثيرة للالتباس والاعتراض… وبعد ضغط مباشر وغير مباشر من الهيئات الدولية، اقتنع أخيراً وزير الطاقة وليد فياض وأقرّ بضرورة تعيين هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء. إنها فعلاً لمسخرة!
وحين أحنى رأسه استجابةً لأبرز شروط المجتمع الدولي الإصلاحية، قرر «التذاكي» لتسمية هيئة ناظمة تلبّي أجندة الفريق السياسي الذي سمّاه لوزارة الطاقة، أي التيار الوطنيّ الحرّ والذي أمضى كلّ ولاية الحكومة محاولاً إقناع الرأي العام أنّه لا يمتّ للوزراء المحسوبين على رئيس الجهورية آنذاك، ميشال عون، وعليه، بأيّ صلة، وأنّه لا يمون عليهم، وحين دقّت الساعة اصطف هؤلاء بالصفّ وعبر الريموت كونترول، ضمن بيان مشترك، لم يطلع كُثرٌ منهم على مضمونه!
وفعلاً، وبعد تأجيل لعقدين من الزمن (2002) تاريخ بدء سريان مفعول القانون 462 الخاص بقطاع الكهرباء، أعلنت وزارة الطاقة والمياه عن اطلاق إجراءات التوظيف لتعيين أعضاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، في بيان مطوّل تقصّدت الوزارة تضمينه بعض النقاط الأساسية والتي هي موضع انتقاد حاد من جانب المتابعين، لدرجة وصف خطوة الوزير بالمخالفة القانونية.
اذ أورد البيان أنّ الوزارة استندت إلى «دراسة معمّقة أفضت الى ضرورة عدم التغاضي عن إدخال التحديثات والتطويرات اللازمة الى أحكام القانون 462»، كما تحدث عن «فصل الصلاحيات بين الهيئة المنوط بها نظم القطاع عبر اصدار التراخيص ووضع التعرفة وغيرها من الادوات الناظمة من جهة والدولة التى تبقى مسؤولة عن وضع سياسة القطاع وتحديد اطار مشاركة القطاع الخاص وصولاً الى التعاقد معه من جهة أخرى»، وتطرق أخيراً إلى «التشديد على إلزاميّة تعديل عدد أعضاء الهيئة ليصبح 6 بدلاً من 5 كما جاء في القانون تماشياً مع مقتضيات الميثاقية والدستور الذي ينص على المناصفة في وظائف الفئة الاولى أو ما يعادلها».
فأين هي المغالطات التي وردت في خطوة الوزير؟
تسأل الخبيرة القانونية كريستينا أبي حيدر: «هل هي آلية لإنشاء الهيئة الناظمة أم هي تهدف لتعديل القانون 462 الصادر في العام 2002 أم هي مجرد خطوة ترقيعية لإرضاء المجتمع الدولي بعدما سدّت كل المنافذ وصار لا بدّ من إجراء الإصلاحات المطلوبة وأبرزها إنشاء الهيئة؟».
للتذكير، فإنّ الفريق العوني ومنذ استلامه وزارة الطاقة في العام 2010 رفض تطبيق القانون 462 قبل تعديله، في شقّ بارز متصل بصلاحيات الهيئة، بينما أحد أبرز أهداف القانون هو إنشاء هيئة مستقلة تتمتع بكل معايير الشفافية ويعطيها صلاحيات مستقلة تمكنها من تنظيم وإدارة القطاع كما أنّ القانون يبعد سلطة وزير الطاقة ويعمل على تغيير هيكلية وزارة الطاقة لكي تواكب القانون الذي يشرّح القطاع ويقسمه بشكل واضح بين الانتاج والنقل والتوزيع فيما يجهد الفريق العوني لكي تكون الهيئة إدارية الطابع، تعمل على تنفيذ أجندة الوزير ورؤيته للقطاع. وهنا جوهر الخلاف.
تؤكد أبي حيدر أنّ الحجج التي يقدمونها هي في استنادهم إلى القانون 181، الذي أشار في مادته الأولى إلى تعديل القانون 462، لكنها ساقطة قانوناً، كون هذا القانون انتهى العمل بآلياته حيث كان الشرط الأساسي أن يتمّ تشكيل، وخلال مدّة ثلاثة أشهر، لجنة وزارية للبحث في امكانية تعديل القانون المذكور، اذا كان هناك حاجة لذلك، وتعيين هيئة ناظمة. ولكن هذا المسار انتهى من دون حتى ولادة اللجنة الوزارية. ولم يؤخذ من القانون 181 الا الاعتمادات المالية، والتي جرى صرفها في العام 2011 لكي ينفذ وزير الطاقة في حينه جبران باسيل، خطة الكهرباء التي وضعها.
للإشارة، فقد نصّ القانون 181/2011 في مادته الأولى، الفقرة السابعة، على تعديل القانون 462 ليصار في ما بعد إلى تعيين الهيئة الناظمة… مع العلم أنه جاء في هذه المادة أنّه «تشكل لجنة وزارية للنظر بالتعديلات على القانون خلال مهلة أقصاها ثلاثة أشهر، والإلتزام بالقانون وتشكيل هيئة ناظمة خلال هذه المهلة بناء على اقتراح وزير الطاقة».
وبالتالي، كيف يتم وضع آلية لتعيين الهيئة بناء على دراسة مجهولة المصدر والمضامين ومخالفة للقانون. اذاً، حجة تعديل القانون 462، وفقاً للقانون 181، ساقطة قانوناً لأنّه لم يتمّ الالتزام بها في حينه ضمن مهلة الثلاثة أشهر التي أتى على ذكرها القانون، ما يعني استحالة فرض تعديل القانون الذي هو أصلاً ساري المفعول وإن كان يتم تطبيقه من جانب وزارة الطاقة بمزاجية الوزير، ولا يجوز وصفه بغير النافذ والحاجة إلى تعديل، خصوصاً وأن هذه الحاجة لا تتناسب ومقتضيات المصلحة العامة…علماً بأنّ الحكومات المتعاقبة، كما ترى أبي حيدر اعترفت بالقانون 462 وطبقت منه المادة السابعة التي تعنى باعطاء التراخيص بعد تعديلها وقيامها مقام الهيئة الناظمة بموجب ثلاثة تعديلات موقتة للقانون من قبل المجلس النيابي.
أمّا فصل صلاحيات الهيئة الناظمة عن صلاحيات الوزير، فهو جوهر كلّ القصة. وهو النيّة المكتومة الكامنة وراء هذا المشروع المتأخر لعقدين من الزمن، لضرب القانون من باب حصر صلاحيات الهيئة بالجانب الإداري فقط والإبقاء على الصلاحيات الأساسية بين يديّ الوزير، مع العلم أن القانون كان واضحاً في تحديد صلاحيات كلّ منهما. وهذا يعني ضرب أي نيّة لإصلاح القطاع خصوصاً وأن تجارب السنوات الماضية بيّنت بالبراهين والأدلة رفض الطبقة السياسية إصلاح القطاع، كما أنّ هذا المسار يُبعد الدول المانحة كما المستثمرين العالميين عن الشراكة في قطاع الكهرباء، لأنها ستكون كما العقود الماضية وفقاً لقواعد المحاصصة السياسية والطائفية والمصالح الضيقة.
أمّا بالنسبة لأعضاء الهيئة، فإن تحديد عديدها بخمسة أعضاء كان بهدف تأمين أغلبية خلال التصويت على أي قرار، ولكن مع توسيع كادرها لتكون من ستة أعضاء، على نحو مشابه لهيئة إدارة قطاع النفط، فهذا يعني استحالة اتخاذ أي قرار من دون الإجماع، وكأن المطلوب ذلك… مع العلم أنّ تعديل هذا البند يحتاج إلى تعديل للقانون، وبالتالي العودة إلى مجلس النواب.
في حين أنّ تبرير ذلك باحترام الميثاقية، فيفترض بهذه الهيئة أن لا تكون نموذجاً عن التوظيف العام الغارق بالمحاصصة والفساد ويفترض أن تكون آلية اختيار أعضائها من خارج النمط السائد لكي تقدّم نموذجاً مختلفاً. ويمكن احترام الميثاقية من خلال اعتماد المداورة مثلاً بين الطوائف لتأمين مشاركتها. كما أن القانون حين وضع، أخذ بالاعتبار النماذج المعتمدة في دول المنطقة لتأليف الهيئات الناظمة، ولذلك أسباب وجيهة، وقد تم وضع الآلية بالتعاون مع البنك الدولي من باب العمل على تأليف هيئة فاعلة وناجحة.
ولعل اكثر ما يثير الريبة في بيان الوزير هو قوله إنه تم اجراء دراسات وورش عمل بالتعاون مع فريق البنك الدولي وفريق MEDREG والتي أفضت الى وضع الهيكل التنظيمي لادارة الهيئة وتوزيع الأدوار فيها، فما هي هذه الآلية وأين تلك الدراسات؟ وهل أنّ الذين شاركوا في ورش العمل المزعومة هم من موظفي الوزارة ومؤسسة كهرباء لبنان أم من المستشارين والذين لا يتمتعون باي صفة قانونية أو مستدامة خصوصا وأنّ المتعمق بالقانون 462 يدرك جيداً أنّ القانون وضع آليات محددة لتطبيقه ومراحل واضحة في عمل الهيئة الناظمة.
وتضيف أبي حيدر أنّه من باب الشفافية والمصداقية يجب اعلان أسماء اعضاء لجنة تقييم الملفات وسيرهم الذاتية ودورهم بالتفصيل في تنفيذ هذه الآلية.
ولا بدّ أخيراً من الإشارة إلى أنّ اطلاق الآلية وتنفيذها دونهما عقبة صعوبة عقد جلسة لمجلس الوزراء لإقرار التعيينات إلا اذا كان المطلوب وضع أي حكومة مقبلة أمام «ترشيحات أمر واقع» تُفرض عليها بحجّة أنّ الوزارة نفّذت الآلية!