تُحاول المنظومة السياسية التقاط لحظات ذهبية مهمة من التوافقات العربية والإقليمية والدولية، لإعادة تعويم أطرافها من مهاوي الفشل والفساد، وإخراج البلاد والعباد من دوامة الأزمات والانهيارات.
هي لحظات مشابهة لمفاصل أساسية في مسار الأحداث والتطورات اللبنانية، بدءاً من اتفاق الطائف، إلى إنهاء التمرد ضد الشرعية في قصر بعبدا، إلى إخراج الجيش السوري من لبنان، إلى إطلاق ورش الإعمار وتدفق المساعدات المالية بعد كل عدوان إسرائيلي.
وهي أشبه بالمناخات التي رافقت وصول العماد ميشال عون إلى بعبدا في تشرين الأول عام ٢٠١٦، على إيقاع الإتفاق النووي الإيراني مع إدارة باراك أوباما، وإنهاء ذلك الفراغ الرئاسي الطويل الذي أنهك الدولة، وهدد مؤسساتها.
ماذا حصل حتى انقلبت أجواء التأزم إلى هذه الفسحة الواسعة من الانفراج، التي حملت معها هذه الجرعة الكبيرة من التفاؤل والارتياح؟
يبدو أن عواصم القرار المعنية بالوضع اللبناني، وفي المقدمة طبعاً باريس وواشنطن، قد استنفدت كل محاولات ترك الأمور بيد الأطراف السياسية، فكان لا بد من تدخل لوضع خريطة طريق تؤدي إلى قيام حكومة جديدة في أسرع وقت ممكن، من دون التوقف عند حسابات زواريب السياسة المحلية الضيقة، لأن مصير البلد أصبح مهدداً، والمجاعة تدق أبواب الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وانهيار النظام الصحي ينذر بكوارث إنسانية، وأهل السياسة يتلهون بلعبة المصالح الأنانية.
لم يأتِ تقدم الرئيس سعد الحريري بترشيح نفسه لرئاسة الحكومة من فراغ، ولم تكن مجرد نزوة سلطوية، بعد رفض صلب وعنيد دام نحو السنة، بقدر ما كان نتيجة تفاهمات خارجية، شاركت فيها أطراف عربية وإقليمية ودولية، انطلاقاً من كونه الأكثر خبرة في المشاريع الإصلاحية والتنموية المقدمة إلى مؤتمر سيدر، ونموذج الاعتدال والانفتاح الأكثر قبولا من الدول المانحة، فضلاً عن علاقاته الشخصية المميزة مع كبار المسؤولين في العاصمتين الأميركية والفرنسية، من الرئيس ماكرون إلى الوزير بومبيو.
تلقى الحريري ضمانات جدية، من أطراف سياسية وحزبية محلية، ومن جهات خارجية، تؤكد استعداد الرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل للتعاون وتسهيل مهمته، التي تتطلب في الوقت نفسه فتح صفحة جديدة في العلاقات بينهم.
مرّت التجربة الوليدة بقطوع جدي عشية تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة في بعبدا أسبوعاً، في رد غير مباشر على عدم إجراء الحريري اي اتصال بباسيل، ولكن اتصالات خارجية سريعة، وضغوط محلية، حالت دون تأجيل الاستشارات أسبوعاً آخر، وكان أن سلكت العلاقة الجديدة في أجواء من الود الحذر بعض الشيء.
من يسبق الآخر، الولادة الحكومية أم الانتخابات الرئاسية الأميركية؟
يبدو أن أصحاب هذا التساؤل البريء ما زالوا يؤمنون «بأن لبنان كم شجرة عاجقين الكون»، وأن الحكومة اللبنانية الجديدة هي بنفس أهمية الانتخابات الرئاسية الأميركية!
في حين أن الواقع الذي يفرض استعجال إنجاز عملية التأليف يتعلق أولا وأخيرا بخطورة الأوضاع المنهارة في لبنان، والتي لم تعد تحتمل مناورات السياسيين اللبنانيين، الفاسدين والمتمسكين بمصالحهم وامتيازاتهم، الأمر الذي فرض هذا التدخل الخارجي بهذه السرعة، وبكل الفعالية الممكنة، بحيث لن يتم التستر على كل من يحاول عرقلة مساعي الإنقاذ والإصلاح، بل سيتم تحميله المسؤولية أمام جمهوره في الداخل، وقد يتعرض لعقوبات موجعة في الخارج.
لم تعد مهمة التقسيمات السابقة للحقائب الوزارية، وعدم تحقيق المداورة كاملة بين الحقائب لم تعد تشكل عائقاً، ولا تمسك البعض بوزارة معينة، فالأهم الآن هو قيام حكومة تستطيع كسب ثقة الداخل والخارج، وقادرة على مفاوضة صندوق النقد الدولي والدول المانحة، بكفاءة واقتدار، وإعادة فتح أبواب المساعدات، وإنهاء هذا التخبط في القطاعين النقدي والمصرفي.
اللبنانيون يحبسون أنفاسهم وهم يترقبون ولادة حكومة الإنقاذ والإصلاح اليوم قبل الغد، وذلك خوفاً من وقوع خلل ما، أو مفاجأة ما، تُطيح بفرصة الإنقاذ الأخيرة، وبكل ما تحمله من آمال لوقف هذا الانحدار المرعب!