IMLebanon

موجة ثورية لتصحيح مسار الثورة الأم في إيران

 

بالنظر إلى الحالة الإيرانية، يبدو أن ثورة عام 1979، التي انضوى تحت لوائها الإسلامي طيف واسع من الشرائح الاجتماعية والتيارات السياسية ما بين اليمين واليسار والوسط، نجحت في هدم نظام الشاه. غير أنها ولجت بعدها حالة صيرورة تتخللها تفاعلات وموجات ثورية متعاقبة تنشد استكمال أهداف الثورة، عبر بناء نظام سياسي يلبي تطلعات الثوار الأصليين لاستئصال شأفة الفساد وتحقيق التنمية وإقرار الديموقراطية. فطيلة زهاء عقود أربعة خلت، شكّلت عمر نظام الولي الفقيه، الذي دشنته شريحة الإسلاميين بعدما اختطفت الثورة لتنفرد من دون بقية ألوان الطيف السياسي والاجتماعي العريض الذي صنعها، بجني ثمار الحراك الجماهيري الجارف بفضل الجهوزية السياسية ودغدغة مشاعر الجماهير باسم الدين، لم تعتر ذلك النظام المتجمد والمنغلق أي إصلاحات أو تغييرات من شأنها أن تكفل دوران النخبة أو تداول السلطة بين شرائح وقوى سياسية وطنية واجتماعية متنوعة، بما يساعد في ترسيخ دعائم ذلك النظام ويعظم فرصه في التطور والبقاء.

توسّلاً لاستكمال الثورة الأم، انطلقت منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي سلسلة متوالية من الموجات الثورية التي ترنو إلى تصحيح المسار وتحقيق الآمال، بمشاركة أطياف مجتمعية متنوعة داخل إيران وخارجها وحضور لافت من جيل الشباب، الذي لم يشارك في ثورة 1979، لكنه حرص على الانخراط في موجاتها التكميلية التصحيحية، بحثاً عن حياة أفضل ونظام بديل من ذلك الذي لم يختره ولا ترضيه إدارته الانفرادية الفاشلة للبلاد.

ووقفت بالمرصاد شبكة المستفيدين من نظام الولي الفقيه، على شاكلة الملالي والحرس الثوري والأجهزة الأمنية والاستخباراتية والدولة العميقة، لكافة الموجات الثورية الرامية إلى إصلاح الفعل الثوري الذي انحرف عن مساره المرجو ومبتغاه المنشود، حيث أبت الطغمة الحاكمة المؤلفة من تحالف الملالي مع الأجهزة العسكرية والأمنية والاستخباراتية، إلا إجهاضها وتقويضها في المهد، مستخدمة في ذلك أبشع صور الإرهاب والإقصاء لرموز وقيادات الحراك الجماهيري المعارض، لتتنوع مآلاتها المأساوية ما بين الإقامة الجبرية، السجن، التصفية أو النفي. وتوخياً لإيصاد الأبواب أمام ظهور معارضة فاعلة أو بديل مدني مناسب، اصطنع الولي الفقيه من رحم التيار المحافظ المتشدد ما يعرف بالتيار الإصلاحي أو المعتدل بغية امتصاص غضب الشعب وإيهامه بأن خطوات عملية تتخذ لإصلاح النظام وتطويره من داخله.

جاءت أولى محاولات التصحيح من قبل أول رئيس منتخب عقب الثورة مباشرة وهو أبو الحسن بني صدر، الذي حاول أن يضفي على نظام الولي الفقيه مسحة ليبرالية ديموقراطية تطال سياساته الداخلية والخارجية، لكن الرئيس الليبرالي الحالم سرعان ما لاحقته اتهامات بالخيانة حتى تمت إقالته ليفر إلى فرنسا. وإلى مآل مشابه ذهب آية الله منتظري، الذي كان نائباً للخميني ومرشحاً لخلافته، لكنه ما لبث أن تعرض لإقصاء تعسفي بعدما اجتهد لتطوير نظرية الولي الفقيه مقترحاً تقليص دوره السياسي وإنهاء عصمته من المحاسبة، كما أدان عمليات الإعدام الجماعية التي شملت ما لا يقل عن 3 آلاف سجين سياسي بتأييد من الخميني خريف عام 1988، فما كان من الخميني إلا أن أجبره على الاستقالة عام 1989.

وخلال عامي 1999 و2003، انتفض طلاب جامعة طهران احتجاجاً على ادعاء الرئيس الأسبق خاتمي القيام بإصلاحات سياسية لم تكن سوى عمليات تجميل لنظام الوليّ الفقيه. وعلى رغم اتساع موجة الاحتجاجات لتعم مدن تبريز ومشهد وأصفهان، إلا أن افتقادها للقيادة والتواصل مع الطبقة السياسية الإيرانية التي يمكنها حشد الجموع الغفيرة، أتاح لآلة النظام القمعية تصفيتها بعد عشرة أيام من دون أن تسفر عن تغيير ملموس. وعام 2009، اندلعت «الحركة الخضراء»، اعتراضاً على نتائج الانتخابات الرئاسية، التي أسفرت، وقتذاك، عن فوز الرئيس السابق نجاد بفترة رئاسية ثانية، وفي حين رفعت التظاهرات مطالب سياسية كما تصدرت صفوفها الأولى قيادات سياسية بارزة، فقد عجل استخدام النظام أبشع صور القمع ووضعه رموزها رهن الإقامة الجبرية بالتزامن مع غياب الدعم الدولي، بنهايتها بعد ثلاثة أسابيع.

ومن مدينة مشهد، ثاني أكبر مدن البلاد، انطلقت منذ الثامن والعشرين من الشهر الماضي أحدث الموجات الثورية التصحيحية الإيرانية، التي تعد الأجرأ والأوسع انتشاراً والأكثر تجاوزاً للخطوط الحمر والأشد تحدياً للتابوات والمحرمات السياسية المتمثلة في المرشد السابق والحالي، الحرس الثوري، نظام الولي الفقيه برمته، البرنامج النووي، والمغامرات العسكرية الخارجية للحرس الثوري، حيث طالب المحتجون بإسقاط الرئيس والمرشد، وأعربوا عن رفضهم إهدار بلايين الدولارات على الحوثيين في اليمن وحزب الله والميليشيات الشيعية في لبنان والعراق وسورية في الوقت الذي تتفاقم معاناة الشعب الإيراني، كما بدأوا يتساءلون عن الفائدة المرتجاة من البرنامج النووي، لا سيما بعد أن أثقل كاهل غالبية الإيرانيين بأعبائه السياسية والاقتصادية.

ولم يأبه المحتجون هذه المرة بتهديد المحكمة الثورية أو بطش الأجهزة الأمنية وإرهاب الحرس الثوري، بعدما تبين لهم أن ليس هناك فرص حقيقية لإصلاح نظام الولي الفقيه ولا مناص من استئصال شأفته، خصوصاً بعدما اتضح أن الخط الافتراضي بين جناحيه الإصلاحي والمحافظ إنما يعد فصلاً وهمياً، كون الإصلاحيين جاؤوا من تحت عباءة وعمامة المحافظين المتشددين. فبالتوازي مع إطلاق مؤيدي روحاني حملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان «نادمون» على دعم وانتخاب روحاني، لم يتورع المتظاهرون عن وضع الرئيس الذي سانده المعتدلون في الفوز بدورتين رئاسيتين، لكنه خيب آمالهم الإصلاحية، في سلة واحدة مع الخميني وخامنئي وجعفري وسليماني، حينما أحرقوا صورهم وطالبوا بإسقاطهم جميعاً، بعدما تماهى معهم كلياً في سياساته ومواقفه على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وإذا تسنى لقمع النظام تقويض الموجة الثورية الحالية قبل أن تؤتي أكلها وتبلغ مراميها في تصحيح المسار الثوري، فإن ذلك، إن تحقق، لا يعني بالضرورة أن الثورة قد تجمدت أو أن النضال الشعبي لاستكمالها من خلال الموجات الثورية المتتابعة قد تيبّس. فلم تزل الحالة الثورية متأججة، ممثلة بالغضب الشعبي المتفاقم من عدم تحقق أهداف ثورة 1979، وفشل نظام الولي الفقيه الإقصائي التعبوي التصفوي، في إدارة البلاد على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وعجزه عن استيعاب آمال وتطلعات جيل الشباب الذي لم يختر ذلك النظام أصلاً أو يجد له مكاناً فيه. ولقد هوى جدار الخوف من بطش النظام، كما تبددت التابوات والمحرمات السياسية، واستبدلهما المحتجون بعزم لا يلين على معالجة الخلل الاقتصادي والاجتماعي عبر تغيير سياسي جذري.

وبناءً عليه، ستبقى الآمال بتمكّن الموجات الثورية من العروج بالحالة الثورية المزمنة إلى طوفان الفعل الثوري الذي يتحدى إرهاب النظام وأدواته القمعية، لتنضوي تحت لوائه كافة ألوان الطيف السياسي داخل البلاد وخارجها، مثلما كان الحال قبل عقود أربعة مضت. كما تتقدم صفوفه قيادات وطنية حصيفة تتبنى رؤية متكاملة لنظام أفضل، بغية استكمال ثورة 1979 وتصحيح مسارها وبلوغ أهدافها المتمثلة في الدولة المدنية الديموقراطية ولو بعد حين. وعلينا ألا ننسى أن اختمار زلزال الثورة الأم استغرق ثلاث سنوات من 1977 وحتى عام 1979 ليتمكن من تفكيك نظام الشاه.

ولكم كانت بليغة وموحية تلك الرسائل التي طواها بين ثناياه ذلك الرد الشجاع للمعارضة الإيرانية على إعلان قائد الحرس الثوري هزيمة ما أسماه «خطة فتنة 2017»، وتسييره تظاهرات مفتعلة مؤيدة للولي الفقيه، حيث أبى المتظاهرون، على رغم مقتل العشرات منهم وإصابة واعتقال آلاف آخرين، إلا مواصلة الاحتجاج، ليس فقط على مستوى الداخل، بل عبر عواصم غربية عدة ومدن شتى حول العالم، مع التمسّك بمطلب التغيير الشامل الذي يبدأ من طي صفحة نظام الولي الفقيه.