لم يسقط الصاروخ الإيراني «بركان إيتش – 2» على الرياض وحدها، سقط أيضاً على واشنطن، التي تهدد وتفرض العقوبات على طهران بسبب نشاطها الصاروخي وتدخلاتها التخريبية في المنطقة، التي لم يعد حسن روحاني يتوانى عن القول إنها من اليمن إلى المغرب العربي، لا تستطيع اتخاذ قرار من دون موافقة إيرانية!
سقط الصاروخ الإيراني أيضاً على الدول الأوروبية التي تحاول التملص من معاقبة إيران، وعلى موسكو التي تحاول الاستثمار في مشكلات واشنطن في الإقليم، رغم أنها تراهن على الدور الأميركي في تقليم النفوذ الإيراني المنافس لها في سوريا.
بالتأكيد سقط كذلك على بيروت، التي تنهمك في لملمة الحطام السياسي الواسع الذي نتج من صاروخ استقالة سعد الحريري، فصارت الأزمة الحكومية المفتوحة تتأجج على نار الصاروخ الإيراني، وكأنه بقي لهذه الدولة قوة تساعدها على التصرّف بعد الحضور المتمادي لدويلة «حزب الله» على القرار اللبناني.
واضح تماماً أن الأمور إلى تصاعد خطير في المنطقة، واضح أيضاً أنه لن يكون في وسع الدولة اللبنانية أن تقبع بعد اليوم في موقع المتفرّج، أو بالأحرى المتعامي الذي يوفّر تغطية شرعية لدور الدويلة، المتدخّل في كل ميادين الصراع الإقليمي من المغرب العربي إلى اليمن، التي أطلق منها الصاروخ الإيراني على الرياض، مروراً بسوريا والعراق ودولة الإمارات والكويت والبحرين!
تماماً كما يقول الوزير ثامر السبهان: «إن ما بعد استقالة الحريري ليس كما قبلها»، وخصوصاً بعد سقوط التسوية السياسية، التي أنهت الفراغ الرئاسي عندما جاءت بالرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا، وأعادت الحريري إلى السرايا الحكومي، ذلك أنه لم يتمّ الالتزام لحظة بمبدأ النأي بالنفس؛ لا بل بدت الأمور معاكسة تماماً، وكان آخر إعلانات الرئيس عون قبل سفره إلى الكويت، وقد تأجلت الزيارة بعد الاستقالة، تأبيد سلاح «حزب الله»؛ لأنه كما قال: «مرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي»، رغم أنه يقاتل على جبهات التدخلات الإيرانية في الدول العربية.
لا داعي للإطالة في الأسباب التي دفعت الحريري إلى تفجير استقالته المعللة من الرياض، والتي جاءت في سياق بيان اتهامي عنيف موجه إلى «حزب الله»، ولا داعي أيضاً للتوقف عند تشكيك حلفاء طهران في بيروت في أنه كان مُراقَباً وحياته مهددة، ولا عند الإشاعات المغرضة عن أنه في إقامة جبرية، بينما كان يزور خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وينتقل إلى أبوظبي.
الرياض تعرف كيف ترد وتتعامل مع عدوان الصاروخ الإيراني، الذي اعتبره ولي العهد عدواناً عسكرياً مباشراً من النظام الإيراني، ويرقى إلى اعتباره عملاً من أعمال الحرب ضد المملكة؛ لكن هل تعرف بيروت كيف تتعامل مع «صاروخ» استقالة الحريري التي فرضت حيثيات سياسية جديدة تضع البلاد أمام ثلاثة احتمالات:
إما حكومة من دون «حزب الله»، أو حكومة يهيمن الحزب على قراراتها وستعاملها الرياض كحكومة إعلان حرب، كما قال الوزير السبهان الذي أوضح أن خادم الحرمين الشريفين أبلغ الحريري تفاصيل عدوان «حزب الله» على السعودية، وأن على الحكومة اللبنانية أن تعي خطر ميليشيات الحزب على السعودية، أو الوقوع في فراغ حكومي مديد ليس في وسع لبنان أن يتحمله سياسياً واقتصادياً ودستورياً، لجهة ضرورة إجراء انتخابات نيابية في مايو (أيار) المقبل؟
الرئيس عون ذهب في الأيام الماضية إلى إجراء مروحة واسعة من المشاورات مع زعماء الكتل والمرجعيات، بعدما كان رئيس المجلس نبيه بري قد أعلن من بعبدا أنه من المبكّر الحديث عن قبول الاستقالة أو عدم قبولها، في حين بدا من المضحك المبكي فعلاً أن يغرق الوسط السياسي في جدال عقيم حول ما إذا كانت الاستقالة دستورية لأنها قُرئت من الخارج أو غير دستورية، رغم أن العقدة ليست في الاستقالة كقرار سياسي، وإنما في السياسات العوجاء التي فرضت هذه الاستقالة التي يبدو أنها كانت تعتمل في صدر الحريري منذ زمن.
عنوان الأيام الماضية كان «في انتظار الحريري ليُبنى على الشيء مقتضاه»؛ لكن لو كان الحريري في بيروت أو عاد إليها أمس أو سيعود اليوم، ما المقتضى الذي سيُبنى عليه؟ الاستقالة بعينها كقرار أو محتوى بيان الاستقالة، الذي قال إن إيران تزرع الفتن والدمار والخراب أينما حلّت، ووجدت في «حزب الله» الذراع الإيرانية، ليس في لبنان فحسب بل في البلدان العربية، الذي يعلن صراحة ولاءه لها، ويسعى إلى خطف لبنان من محيطه العربي والدولي… «وأريد أن أقول لإيران وأتباعها إنكم خاسرون، وستقطع الأيادي التي امتدت إلى الدول العربية، وكما ردت عليكم في البحرين واليمن فسترد عليكم في كل أجزاء أمتنا العربية، وسيرتد الشر إلى أهله».
بعد هذا الموقف القوي، وجدنا في بيروت كثيرين من المصدومين والمفجوعين، الذين تحدثوا عن «إجبار الحريري على الاستقالة» وأنه في «الإقامة الجبرية»، بعدما أحسّوا بأن لبنان وصل أخيراً إلى الاستحقاق الصعب الذي زجّ نفسه فيه، وأن عليه أن يقرر إما طي صفحة هيمنة إيران عبر «حزب الله» على قرارات الحكومة وسياساتها، وإما الدخول في أزمة فراغ حكومي مؤذية جداً لا يستطيع تحمّلها، واقفاً في وجه العالم العربي والدولي، وعرضة للآثار التي ستتركها مروحة العقوبات الأميركية المتصاعدة على إيران و«حزب الله»!
عندما قال فؤاد السنيورة بعد خروجه من اللقاء التشاوري مع رئيس الجمهورية، إن مرشح كتلة نواب «المستقبل» لرئاسة الحكومة في أي استشارات لتشكيل حكومة جديدة هو سعد الحريري، كان واضحاً تماماً أن هذا الترشيح على أساس محتوى بيان الاستقالة، وبدا واضحاً أكثر وأكثر النفق الذي قد تدخله الأزمة في لبنان.
إما مرحلة سياسية جديدة حدودها الالتزام بمبدأ النأي بالنفس والعودة إلى روح «إعلان بعبدا»، وهو ما كان يُؤمل أن تفضي إليه تسوية الحريري – عون، ولم يحصل ولن يحصل مع موقف «حزب الله» ودوره الإيراني من لبنان إلى اليمن، حيث انطلق الصاروخ على الرياض، وحيث يهدد الإيرانيون بلسان الحوثيين بقصف السعودية ودولة الإمارات بالصواريخ، وإما الفراغ كما أشرنا أعلاه.
قبل يومين برزت فكرة تشكيل حكومة تكنوقراط، في محاولة التفافية لعدم إشراك ممثلين من «حزب الله»؛ لكنها سرعان ما جوبهت ضمناً برفض من الحزب وحلفائه، ولهذا فإن الوضع يراوح عند حدود قيام الحكومة بتصريف الأعمال، ريثما يقوم الجميع ببناء «الأشياء على مقتضاها»!
الموقف واضح وصريح، الحريري استقال عبر تفجير بيان إدانة صاروخية لإيران و«حزب الله»، والسعودية اتهمت الحزب بالضلوع في إطلاق الصاروخ على الرياض، وخادم الحرمين الشريفين أبلغ الحريري تفاصيل عدوان «حزب الله» على السعودية، وكرة نار الاستقالة الصاروخية في الشباك اللبنانية.