IMLebanon

تفاهم روسي – أميركي – تركي يكبح إيران؟

رسائل كثيرة تتوالى يومياً من قادة الحلف الثلاثي في سورية. مواقف متبادلة من أعلى القمة في كل من موسكو وطهران وأنقرة. بعضها ودي وبعضها الآخر يحمل في طياته صراعاً خفياً. وثمة أوساط في المعارضة السورية تراهن على صدام مقبل بين روسيا وإيران. أو بالأحرى تأمل بقيام حلف ثلاثي بديل تحل فيه الولايات المتحدة محل الجمهورية الإسلامية. وترى إلى مثل هذا التطور خطوة تعوضها الكثير من الخسائر التي منيت بها بعد استرجاع النظام مدينة حلب. المواقف التي يعلنها أهل الحلف القائم لا تشي بأنهم على سكة واحدة، أقله في النظر إلى مستقبل الأزمة السورية وسبل تسويتها. يكفي أن طرفاً، ومعه النظام، لا يزال يعتقد بأن الحسم العسكري هو الحل الوحيد. ويصر على مواصلة هذا النهج. فيما طرفان آخران ينشطان لإطلاق مسار سياسي يبدأ من آستانة لينتقل إلى أيدي الأمم المتحدة مجدداً في جنيف. لكن تعويل المراهنين على صدام حتمي بين بعض الأطراف الثلاثة، أو على انفراط عقدهم، قد لا يكون في محله. فهؤلاء يدركون خطر مثل هذه المجازفة الكبرى، لأن أحداً منهم لن يخرج منها منتصراً، فيما فصائل مقاتلة لا تزال على سلاحها، شمال سورية وجنوبها. وفيما قوى سياسية تنتظر تولي السيد دونالد ترامب مهماته، ليساهم في تقويض بعض دعائم هذا الحلف لعلها تستعيد ما خسرت من دور في الميدانين السياسي والعسكري.

الرئيس فلاديمير بوتين أمر بسحب قطعاته البحرية من المتوسط. رسالة واضحة أنه لم يعد معنياً بمزيد من القتال. لم يعد بحاجة إلى مزيد من العمليات الكبرى. حقق ما يريد. «نصره» في حلب أعاد إلى روسيا صورتها كقوة دولية. وكسب مزيداً من الشعبية في الداخل ساهم في رفعها تحسن أسعار النفط والاتفاقات التي توصل إليها مع «أوبك» وشركاء آخرين من خارجها. رسخ أقدام بلاده في الشرق الأوسط. باتت لاعباً رئيسياً ترفدها شبكة من العلاقات والتحالفات، من مصر إلى تركيا. وضمن «شرعية» دائمة لقاعدتيه في حميميم وطرطوس. وأعاد إلى المؤسسة العسكرية السورية بعض الثقة بالنفس، مثلما أعاد هيكلة أركانها وقطعاتها. وهو منكب على تأسيس «الفيلق الخامس» للملمة عناصر ميليشياوية وضبطها في إطار عسكري منظم. لكنه يعي جيداً أن له شركاء آخرين في هذا «النصر» أبرزهم طهران وأنقرة، فضلاً عن الذين صموا آذانهم وأشاحوا نظرهم عما كان يحدث في العاصمة الاقتصادية السورية. وهو يراهن منذ اللقاء الثلاثي في موسكو بين وزراء الخارجية الروسي والإيراني والتركي وحتى الاستعداد لاجتماع آستانة، على بناء حد معقول من التوازن في علاقته بهذين الطرفين الضروريين لوقف النار أولاً ولإطلاق العملية السياسية ثانياً. لكن الواقع لا يعكس هذه الصورة.

الواضح أن الرئيس بوتين عزز تفاهمه مع تركيا أثناء معركة حلب ثم في ضمانهما وقف النار. وهو يعول على دورها في إقناع المعارضة السياسية والمسلحة بالمشاركة في المسار السياسي. لكن هذا التفاهم الثنائي عكس تضارباً بين موسكو وإيران يتعمق أكثر وأكثر. الأخيرة انتقدت موافقة روسيا على القرار الأخير لمجلس الأمن الخاص بحلب. وكانت عارضت التفاهم الروسي – التركي على خروج المقاتلين من عاصمة الشمال السوري إلى أن شمل بلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين. وعبر «الحرس» وحلفاؤه عن اعتراضهم على دعوة فصائل عسكرية معارضة إلى العاصمة الكازاخية، فضلاً عن دعوة مفتوحة إلى قوى أخرى بينها السعودية وقطر. وهو ما تحرص عليه روسيا حرصها على عدم وصمها بالوقوف في وجه السنة عموماً في الإقليم. علماً أن دعوة الفصائل المقاتلة إلى آستانة بدعم تركي يشكل اعترافاً صريحاً بهذه الفصائل من جانب جميع المشاركين وفي مقدمهم النظام وإيران. لذلك يواصل هذان الطرفان خرق وقف النار. ويصعدان خطابهما بوجه تركيا، مرة بدعوتها إلى سحب قواتها من الشمال السوري ومرة بالتهديد بحملة لاستعادة إدلب وريفها.

والواقع أن الهوة واسعة بين أجندات «الحلف الثلاثي». موسكو لا تشعر بأنها حققت القسم الأكبر من استراتيجية تدخلها في بلاد الشام فحسب. بل تستعجل الخروج وبيدها إنجاز كبير يتيح لها استثماره في السياسة، سواء مع الولايات المتحدة أولاً ثم مع تركيا وأوروبا ومع دول الخليج أيضاً بإصرارها على المسار السياسي اليوم. أي أنها ليست في وارد مواصلة حرب ستطول لتحقيق نصر عسكري ناجز. وليست مستعدة للمجازفة والغرق في مستنقع مشابه لما حل بالسوفيات في أفغانستان، أو حتى لما حل بالأميركيين في العراق. وقد حقق لها التفاهم مع أنقرة خروجاً للمقاتلين من حلب وحفظ بعض ما يمكن أن يحافظ عليه وسط الحملة التدميرية التي قادتها الميليشيات. وهو التفاهم نفسه الذي سيوفر عليها الانسحاب التدريجي من المستنقع السوري. إنها تعول على قدرة تركيا في ضبط الفصائل المعارضة بعدما بات القسم الأكبر منها تحت رحمة القوات التركية ورعايتها في الشمال والشمال الغربي لبلاد الشام. ويشكل هؤلاء المقاتلون قوة عسكرية كفيلة بتعديل ميزان القوى مع الميليشيات التي ترعاها إيران. لذلك تنادي هذه بخروج القوات التركية من سورية لأنها لم تدخل بناء على طلب حكومة دمشق! وهي رسالة جوابية على مطالبة أنقرة بوجوب خروج «حزب الله» وغيره من الميليشيات الشيعية الوافدة. وتصر طهران على مواصلة القتال، كما هي الحال في اليمن، حتى تثبت أقدامها في «العواصم العربية الأربع». وهي تشعر بأن استراتيجيتها لا تزال تواجه تهديداً مشتركاً، في شبه الجزيرة من جانب «أهل الحزم»، وفي المشرق العربي من جانب شريكيها في الحلف. خصوصاً أن روسيا تجهد الآن لاستيعاب آلاف المقاتلين من الميليشيات في الفيلق الجديد. وهي خطوة تهدف إلى انتزاع هذه الورقة من يد «الحرس الثوري» قبل أن يحولها جيشاً رديفاً يخدم أهداف الجمهورية الإسلامية ويعطل أي تسوية سياسية. أو يكون هو الحاكم الفعلي في أي تركيبة سياسية تكون ثمرة صفقة هنا أو هناك.

يبدو واضحاً من مواقف إيران التعطيلية في سورية أنها تلتزم في اللقاءات الثلاثية شيئاً وتنفذ على الأرض سياسة مختلفة تدفع بالنظام ورئيسه إلى أحضانها بعيداً من موسكو. كأنها لا تعترف بفضل تدخل روسيا الذي أتاح أسطولها الجوي والبحري سهولة تحقيق ما تحقق من «إنجازات»! بخلاف تركيا التي توحي لقاءاتها مع أطياف المعارضة أنها واثقة من سعي الكرملين إلى تسوية سياسية. وتحاول إقناع «الهيئة العليا للمفاوضات» بأن آستانة ليست بديلاً من جنيف، خصوصاً في غياب الأميركيين وغيرهم أيضاً، بل هي مقدمة لها. لذلك كانت آخر رسائلها الإصرار على تمثيل المعارضة الحقيقية. ولذلك جاءت تصريحات الفصائل المدعوة إلى العاصمة الكازاخية أنها على تنسيق مع الهيئة. وعلى رغم ذلك لا تستخف روسيا ولا تركيا بنفوذ الجمهورية الإسلامية في دمشق. قد لا يقل أهمية عن نفوذ موسكو. فهي فضلاً عن مساهمتها الميدانية الواسعة بالمقاتلين، قدمت دعماً مالياً واسعاً إلى النظام المتوجس من الأجندة الروسية. ويرى مصلحته في الانحياز إليها ما دام أنها تصر على بقائه في المدى المنظور ضماناً وحيداً لاستكمال بناء استراتيجيتها.

ما يبدل في ميزان النفوذ لمصلحة موسكو في سورية ليس الصدام المباشر مع طهران. فالرهان على ذلك ليس في محله. ما يحقق للمعارضة بعضاً من آمالها هو تفاهم محتمل بين الإدارة الأميركية المقبلة والكرملين. فلا يخفى أن أجواء الوجوه الجديدة في إدارة الرئيس ترامب معادية لإيران، وتنذر بصراع مقبل معها. وهي لن تكون مرتاحة إلى أي صفقة بين الكرملين والبيت الأبيض. ما يعزز قبضة روسيا في سورية، ويرجح كفتها في سورية، التفاهم على آلية لتنفيذ القرار 2254 تصدر بقرار عن مجلس الأمن تسمح بإطلاق المرحلة الانتقالية بتشكيل حكومة مشتركة تعد لدستور جديد يحمل تغييرات حقيقية سياسية وعسكرية، وتهيئ لانتخابات عامة ورئاسية. وأي تسوية تستهدف إعادة إنتاج النظام نفسه بقادته وأدواته ستكون تسوية تجميلية موقتة… ولن توفر مناخاً مقنعاً لعشرات آلاف المقاتلين في جبهتي الشمال والجنوب بإلقاء السلاح والانضمام إلى المؤسسة العسكرية. والإصرار على مواصلة الحل العسكري بلا مدد روسي لن يؤدي إلى الحسم الناجز. لن يتحقق ذلك في ظل المعطيات القائمة والتفاهم بين تركيا وروسيا. كان الأميركيون وغيرهم يطمئنون أهل الخليج والغاضبين من تدخل إيران إلى أن هذه لا يمكن أن يكون لها في بلاد الشام ما لها في بلاد الرافدين، نظراً إلى التركيبة الديموغرافية في البلدين الجارين. وهو ما دفعها إلى الاستنجاد بالقوة الروسية خريف العام 2015. وتبقى هذه القوة حاجتها الملحة إذا أرادت لنفوذها وحضورها أن يترسخا… إلا إذا كانت قادرة والنظام على فرض «سورية المفيدة»!