تُشكّل تصريحات بعض السياسيين عن إستخدام مداخيل النفط لسدّ الدين العام، خطر حقيقي على الثروة النفطية. وإذا كان الوضع المالي الصعب يُسيطر على مالية الدولة إلا أن النظرية الإقتصادية تُعطي الصندوق السيادي دورًا إقتصاديًا كبيرًا عبر دعم الإقتصاد وليس دورًا ماليًا لسدّ عجز الدولة ودينها العام.
أدّت المنهجية التي إتبعتها الحكومات المُتعاقبة منذ عقود إلى خلق عجز مالي كبير تحوّل إلى دين عام. هذا العجز أصبحت أرقامه مُرتفعة مقارنة بحجم الإقتصاد اللبناني ليعجز بذلك عن سدّ حاجات الدولة المالية. ما يقترحه بعض السياسيين هو إستخدام جزء من مدخول الثروة النفطية لسدّ قسم من الدين العام وبإعتقادهم أن هذا الأمر مُفيد بحكم أنه سيُخفّف من قيمة خدمة الدين العام.
هذا الأمر مُخالف لكل النظريات الإقتصادية التي تؤكّد أن دور الثروة النفطية هو دعم الإستثمارات في الماكينة الإقتصادية إن مُباشرة عبر إستخدام قسم من مداخيل النفط والغاز الموجودة في الصندوق السيادي لإستثمارات في الإقتصاد اللبناني، أو غير مباشرة عبر عائدات إستثمارات الصندوق السيادي الناتجة عن إستثمارات عالمية وإستخدام هذه العائدات في دعم الإستثمارات في الإقتصاد اللبناني.
إذًا دور الصندوق السيادي هو دور إقتصادي بحت وكل مُحاولة لتغيير هذا الدور مُنافية لأصول إدارة الصناديق السيادية في العالم. هذا الأمر يزداد تأكيدًا مع وجود عاملين أساسسيين في لبنان يُعتبران علّة لبنان الإقتصادية: الإنقسام المذهبي والفساد المُستشري. وبالتالي فإن إستخدام مداخيل الثروة النفطية في الإنفاق الجاري هو حرق للثروة النفطية وجريمة بحق الأجيال المُستقبلية.
فكرة الصندوق السيادي وّلدت من منظار ضمان حقوق الأجيال المُستقبلية. وقد أثبت التاريخ صوابية هذه النظرية من ناحية أن البلدان التي أنشأت صناديق سيادية (عددها يفوق الـ 50 والكويت كانت الأولى في العام 1953) أمّنت حياة رفاهية لأجيالها المُستقبلية. على سبيل المثال هناك الصندوق السيادي القطري (Qatar Investment Authority) الذي من المُتوقع أن تؤمّن عائداته الإستثمارية في الأعوام القادمة كامل تمويل الميزانية القطرية وذلك من دون أي يكون للنفط والغاز أي دور في ذلك.
فقد أخذت قطر بالإستثمار في مشاريع عدّة وشركات عالمية في فرنسا، إيطاليا، أميركا، بريطانيا… هذه الاستثمارات التي يقوم بها جهاز قطر للاستثمار تشمل مختلف المجالات الصناعية، الخدماتية، المصرفية، والزراعية في العالم. ولخفض المخاطر الناتجة عن تقلب أسعار العملات، قام جهاز قطر للاستثمار باعتماد التنويع في الاستثمارات وفق العملات 40% من أصوله بالدولار الأميركي، 40% باليورو، و20% بباقي العملات.
مثال الصين هو مثال أخر عن الأهمية الإقتصادية للصناديق السيادية، فقد إستطاعت الصين إنشاء 5 صناديق بقيمة إجمالية تفوق الـ 1.4 تريليون دولار أميركي. أيضًا يُمكن ذكر صندوقي أو ظبي السياديين الذي تفوق قيمتهما الـ 730 مليار دولار أميركي.
المُلفت في الأمر أن هناك عوامل تُعطي للصندوق السيادي أهمية كبرى تتمثّل بعزله عن متهات الصرف والديون الحالية للدوّلة خاصة أن النمو الدائم لهذه الصناديق هو حقيقة واقعية على الرغم من أزمة الديون السيادية العالمية!
إن تقديراتنا لحجم الثروة النفطية في لبنان وفق أسعار النفط والغاز اليوم هي 200 مليار دولار أميركي مع إحتمال 95% و500 مليار دولار أميركي مع إحتمال 5%. ويُعتبر الغاز الطبيعي أساس هذه الثروة والذي، وبحكم خصائصه، يُعطي لبنان بعداً إستراتيجيّاً لم يكن ليحصل عليه لولا وجود هذه الثروة.
الصندوق السيادي يجب أن يكون تحت وصاية الدولة اللبنانية كمالك لهذا الصندوق ولكن إدارته تعود إلى مجّلس إدارة مُكوّن من عشرة أشخاص، 5 منهم من القطاع العام و5 أشخاص من القطاع الخاص. ووجود وزير المال ووزير الإقتصاد وحاكم مصرف لبنان في مجلس الإدارة يُعتبر من الأساسيات، في حين يُعطى للسلطة السياسية تسمية العضوين الأخرين من القطاع العام. أما القطاع الخاص فيتمثّل بأشخاص يُمثّلون المصارف وعددهم إثنين ومُمثل عن الهيئات الإقتصادية ومُمثّل عن النقابات العُمّالية وخبير إستثماري مشهود له بالكفاءة.
هذا المجلس له دور توجيهي من ناحية أن يضع قيودا على نوع الإستثمارات وتنويعها الجغرافي وعملات الأصول… ويُعهد بإدراة الصندوق إلى مصارف إستثمارية عالمية يتمّ إختيارها من بين المصارف ذات خبرة مؤكّدة.
الصندوق يتمّ تأسيسه من خلال قانون في مجلس النوّاب حيث يجب أن يُذكرّ بوضوح أن عائدات الثروة النفطية تذهب حصريًا إلى هذا الصندوق ولا يُمكن للدوّلة اللبنانية المسّ بهذه الأموال. بل أن للدوّلة الحق إذ ما قرّر مجلس إدارة الصندوق أن تستفيد من عائدات إستثمارات الصندوق. هذه العائدات تذهب حصّريًا إلى دعم إستثمارات في الإقتصاد اللبناني تسمحّ بتكبير حجمه ولا تُستخّدم بأي شكلٍ من الأشكال لسدّ الإنفاق الجاري.
أيضًا، يُعهد التدقيق في حسابات الصندوق وإدارته إلى شركة تدقيق عالمية تضع تقريرًا سنويًا بين أيدي مجلس الإدارة ولكن أيضًا بيد الشعب اللبناني وذلك لضمان شفافية مُطلقة في إدارة هذا الصندوق.
هذه المنهجية في العمل تضّمن فوائد عديدة نذكرّ منها:
أولًا، على الصعيد المالي: الصندوق السيادي يسمح بتخفيف كلفة الإقتراض على الدولة. فالمُستثمرون في سندات الخزينة ينظرون إلى إحتمال تخلّف الدولة عن الدفع كعامل أساسي يُحدد من خلاله الإستثمار في هذه السندات أو لا. وإذا ما تمّ إختيار الإستثمار فيها، فإن وجود الصندوق يُقلّل حكمًا من سعر الفائدة على هذه السندات وبالتالي من حجم خدمة الدين العام. هذا الواقع يُسقط ذريعة إستخدام مداخيل الثروة النفطية لتخفيف عبء خدمة الدين.
ثانيًا، على الصعيد الإقتصادي: يُساعد الصندوق السيادي في حماية الاقتصاد من التضخّم، فدخول العملات الأجنبية من الخارج إلى الاقتصاد الوطني والناتج عن الصادرات النفطية والغازية، يرفع من التضخم بحكم الإستهلاك المحلّي الناتج عن هذه الأموال. ويزيد توافد رؤوس الأموال إلى بلد مُعيّن من الودائع في المصارف التجارية مما يدفع الأخيرة إلى زيادة عرضها من القروض وبالتالي تُشكّل ضغطا على العملة الوطنية.
الآلية التي يلجمّ من خلالها الصندوق السيادي التضخم هي بكل بساطة آلية تخفيف تدفق صافي الأموال بالعملات الأجنبية الى الاقتصاد الوطني. إذ من المعروف أن الصندوق السيادي والذي يستثّمر عادة في إقتصادات خارجية، يُخفف من وطأة دخول الأموال بالعملات الأجنبية وبالتالي يلجم التضخم.
آفة المرض الهولندي التي تضرب الإقتصادات والتي تُصدّر النفط والغاز، هي نتيجة لتقوية العملة الوطنية على حساب الصادرات الصناعية التي تفقد تنافسيتها بسبب قوة العملة الوطنية.
وإذا ما أضفنا التضخم الذي ينتج عن تدفق العملات الصعبة، نرى أن الصادرات التقليدية (صناعية، زراعية، وخدماتية) تفقد من تنافسيتها مع نظيراتها من الدول الأخرى. وبالتالي، فإن الصندوق السيادي يدفع إلى حفظ الثروة بالعملات الصعبة في الخارج وبالتالي، يُخفف الضغط على العملة الوطنية مما يعني تحّسين قدرة الدولة على التصدير.
كما أن إستثمار عائدات الصندوق في القطاعات الإنتاجية له مفعول إيجابي من ناحية تقوية الماكينة الإقتصادية التي ستستفيد من هذه العائدات. وإذا ما ترافق ضخ هذه العائدات في الاقتصاد مع خطّة إقتصادية تسمح بتنويع الماكينة الإقتصادية وتوزيعها بشكل عادل بين المناطق كافة، فإن الناتج المحلّي الإجمالي سينمو بشكل كبير كنتيجة لهذه الإستثمارات وبالتالي، فإن الفائض المُحقّق من الموازنة يُستخدم في سدّ الدين العام وزيادة الإستثمارات.
ثالثًا، على الصعيد الإجتماعي: إن إستثمار عائدات الصندوق السيادي بشكل يسمح بتأمين إنماء متوازن، يؤدّي بدون أدّنى شكّ إلى عدالة إجتماعية أفضّل وذلك من خلال خلق وظائف في جميع المناطق وبالتالي توزيع الثروة بواسطة الماكينة الإقتصادية بشكل عادل على جميع أفراد المجتمع. كما أن الإستثمارات في البنى التحتية تؤمّن رخاء إجتماعيا كبيرا يستفيد منه المواطن على مثال خلق تراموي أو جسور أو سدود أو طرقات…
رابعًا، على الصعيد الإداري: إمتلاك صندوق سيادي يفرض إمتلاك سياسة مالية شفّافة وبالتالي يزيد من الشفافية ومن الحوكمة الرشيدة. وبحسب شركة PWC، فإن دخول مداخيل النفط والغاز إلى الصندوق السيادي يُقلّل من سلطة السياسيين على هذه الأموال.
وبالتالي، نرى أهمّية فصل الصندوق السيادي عن الإنقسامات السياسية ومُحاولة وضع إدارته تحت سلطة هذا الفريق أو ذاك، إذ يكفي إحترام الهيكلية العملية المنصوص عليها أعلاه لضمان مداخيل ثابتة وأكيدة للأجيال الحالية والمُستقبلية.