عقد بعيداً من الاضواء أواخر أيار الماضي اجتماع في احد فنادق بيروت ضمّ عدداً من الدول ذات الوزن الابرز بتأثيرها في الازمة السورية. وكان هدفه البحث بنحوٍ شبه رسمي في إنشاء نوع من التعاضد بين هذه الدول لإنتاج مقاربة مشتركة جديدة تُساهم في حلّ الازمة السورية، وتأخذ بالاعتبار ضرورة التوافق على حلٍّ سياسي لها، يفيد بدوره في إطلاق تحرّك سريع لقمع حال الارهاب المستشرية في المنطقة والتي باتت فعلياً تشكل خطراً جدياً على الأمنَين الاقليمي والعالمي.
قبل عرض تفاصيل توافرت لـ«الجمهورية» عن وقائع هذا الاجتماع الذي بقيَ سرّياً لأسباب مختلفة، يجدر عرض ملاحظتين مهمّتين على صلة بانعقاده تحديداً في بيروت:
– الاولى توضح أنّ بيروت لا تزال المكان الانسب من وجهة نظر المجتمع الدولي لإدارة حوارات «جسّ النبض الدولية والاقليمية» حول إنتاج مقاربات جديدة لمشكلات مزمنة وساخنة ومعقدة في الشرق الاوسط.
وهذا يعني أنّ بيروت لا تزال موجودة في الخريطة الدولية بصفتها مدينة تلعب دور»مختبر المنطقة»، وهذا يعني أيضاً واستطراداً أنّ لبنان لا يزال يحتفظ بمعناه الدولي الذي عبّر عنه وزير خارجية النمسا الشهير مترنيخ حيث وصف «لبنان الصغير» حينها بـ»البلد الصغير بحجمه والكبير بدوره».
– الملاحظة الثانية، أنّ لبنان وفي قلبه بيروت، لا يزال تصنيفه دولياً أنه الأقل من حيث منسوب احتمالية الخطر الارهابي فيه، قياساً بكل دول المنطقة. ولعلّ هذا التصنيف المُضاف إلى الرؤية الدولية لدوره «مختبر المنطقة»، هما اللذان يفسران حزم القرار الدولي بالحفاظ على ما يسمى الاستقرار النسبي السائد حالياً فيه واعتباره خطاً أحمر لا يسمح لأحد بتجاوزه.
وقائع اللقاء
ماذا في تفاصيل المؤتمر، أو بتعبير أدقّ «لقاء بيروت الدولي والاقليمي حول حلّ الازمة السورية»؟
تفيد معلومات خاصة بـ«الجمهورية» انه خلال الربيع الماضي، قادت ألمانيا نشاطاً ديبلوماسياً وسياسياً بعيداً من الاضواء تضمّن اتصالات عبر قنوات متشعّبة مع الدول الوازنة في الازمة السورية، وشملت الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والسعودية وقطر وتركيا، وأيضاً شخصيات قريبة او على صلة بالنظام السوري، والهدف هو عقد لقاء بين ممثلين عن هذه الدول للبحث في رؤى حول حلّ للأزمة السورية.
والفكرة الاساسية التي برّرت بها ألمانيا حراكها السياسي هذا، تقول إنّه بات مطلوباً إزاء تعاظم مخاطر الارهاب المنطلق من سوريا والعراق الى كلّ المنطقة والعالم، ابتداع وسائل لمكافحته عبر إنهاء حالات النزاع في دول المنطقة وفي مقدّمها سوريا، وذلك بأساليب غير تلك المتبعة حتى الأن.
وتعتبر الفكرة الألمانية أنّه من غير المؤمل أن تقود مساعي الاتصالات بين المعارضة والنظام وحدها الى نتائج حاسمة لإنهاء الازمة السورية؛ وأنه
حتى لو تمّ استكمال مؤتمر جنيف 1 و2 بمؤتمر 3 و4 (الخ) وحتى لو استكملت مؤتمرات موسكو بأخرى تتبعها، فإنّ هذا المسار، على رغم وجاهته، لن يقود في المحصّلة إلى حلول عملية، لأنّ القوى المؤثرة في الارض السورية هي بمعظمها قوى لا تشارك في هذه الحوارات، وتنتمي إلى أجندات ارهابية.
وعليه فإنّ الطريق العملي والأمثل المفضي الى الحلّ في سوريا- بحسب النظرة الألمانية – يتمثل أساساً في أن تتوصل القوى الاقليمية والدولية ذات التأثير في الازمة السورية، إلى تصوّر سياسي وعملي مشترك لطريقة حلّ هذه الازمة، ومن ثمّ يُصار الى إسقاطه على ارض الواقع السوري.
وتفيد المعلومات أنّ مهندس تعريب هذه الفكرة الألمانية الذي كلّفته برلين إنضاجها وتجسيدها عملياً، هو إريك شنايدر، وقد جال بها شخصياً، أو عبر موفدين وقنوات تخصّه، على عدد من الدول الاقليمية والدولية المؤثرة بالأحداث السورية، وأفضت اتصالاته الى عقد مؤتمر أو لقاء دولي وإقليمي نقاشي في بيروت أواخر أيار الماضي، حضره ممثلون بمستويات عالية لكلٍّ من واشنطن وطهران وسفراء عدد من الدول العربية والخليجية المهمة، تحفَّظ المصدر عن ذكرها جميعاً على رغم أنّه يؤكد أنّ بينها دولة مهمة جداً في تأثيرها على الازمة السورية وهي منخرطة في الاشتباك الاقليمي حولها.
وعرف من الدول العربية التي شاركت في الاجتماع قطر التي تمثلت بشخصية خبيرة في هذا الملف. كذلك حضر ممثل رفيع لأنقرة، وشخصية قريبة من النظام، على رغم أنه تمّ إسناد الصفة التمثيلية لحضورها الى هيئة دولية.
أسماء مشاركين
وكشفت المعلومات أنّ اللقاء عقد في أحد أكبر فنادق بيروت ودام يومين، وعرف من الحاضرين روبرت فورد ممثلاً واشنطن، وهو سفير اميركي سابق في سوريا وظلّ طوال فترة طويلة من الولاية الرئاسية الاولى لباراك اوباما، احد ابرز أعضاء خلية الازمة السورية التابعة للبيت الأبيض ولوزارة الخارجية الاميركية، وكان كلّف حصراً متابعة ملف اطراف المعارضة السورية والأكراد السوريين، ولا يزال يضطلع حالياً بأدوار في شأن الازمة السورية، وإن خارج أيّ صفة رسمية.
أما شنايدر ممثل ألمانيا، فقد أدّى دور الراعي للاجتماع كون بلده هو الجهة الداعية والمنظمة للقاء وصاحبة فكرته والمنتجة لورقة النقاش فيه.
ومثل ايران في الاجتماع نائب وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان، فيما تمثل النظام السوري بنحو غير مباشر عبر الدكتور عبد الله الدردري الذي أشير اليه في الاجتماع بصفته مستشاراً في الامم المتحدة مركزه بيروت.
وفي خلاصة حول نتائجه، انتهى اللقاء الى ما يقارب الفشل في التوصل لأيّ اتفاق على ما يجب فعله في سوريا. لكنّ مراقبين متابعين لمساره اعتبروا أنّ مجرد حصوله كان بمثابة «بروفا» يمكن البناء عليها مستقبلاً، إذ إنه للمرة الأولى تنجح وساطة في إقامة طاولة دولية واقليمية لنقاش الازمة السورية، وذلك في حضور ممثلي أبرز الدول الاقليمية المتنازعة بشدة حول هذا الملف، والمتصفة بأنّ هناك في ما بينها حوله حرباً بالواسطة.
وثمّة ميل لدى هؤلاء المراقبين الى اعتبار «اجتماع بيروت الاقليمي والدولي حول الازمة السورية»، خطوة في الشكل غير مسبوقة، إذ إنه على رغم فشله في إحراز أيّ نتائج عملية إلّا أنّه كسر، ولو نسبياً، الحاجز النفسي القائم منذ اربع سنوات بين الدول الاقليمية الاكثر تأثيراً في الازمة السورية والمتحاربة في ميدانها.
معلومات ذات صلة
وتوافرت لـ«الجمهورية» من مصادر أخرى، معلومات ذات صلة بالخلفيات التي قادت ألمانيا إلى عقد «اجتماع بيروت»، اضافة إلى الخلفيات المستجدة التي جعلت دولاً إقليمية «تتحارب» بالواسطة في سوريا، توافق على المشاركة فيه.
وتفيد هذه المعلومات أنّ الاتحاد الاوروبي يُفعّل منذ فترة برنامج اتصالات بمراكز أبحاث في دول عدة تتّصف بأنّ لها صلات بوزارات الخارجية في بلادها، والهدف من ذلك إقناعها بتنظيم حوارات حول الازمة السورية يشارك فيها باحثون من دول مشاركة في ازمات الاقليم، على أن يكون لهؤلاء إطلالات على مواقع القرار في دولهم وصلات بها.
ويريد الاتحاد الاوروبي من إجراء هذه الحوارات عبر مراكز أبحاث في المنطقة، التمهيد لتوصّل اطراف النزاع في الاقليم الى أرضيات مشتركة حول الازمات الساخنة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وغيرها..
وثمة فكرة اساسية هي التي تحرّك حالياً ألمانيا والاتحاد الاوروبي لتشجيع عقد حوارات غير رسمية وبأطر مختلفة بين دول الاقليم، ومفادها أنّ الارهاب في المنطقة وعبر استيطانه الساحات الساخنة فيها، وصل الى مرحلة خطرة جداً، وأنّ استئصاله لم يعد ممكناً من دون تفاهمات اقليمية عميقة تبدأ بحلّ أزمات الدول الملتهبة سياسياً بالتزامن مع ضرب الارهاب التكفيري المتطرف.
وتلاحظ هذه الفكرة أنّ مكمن الخطر المستجد في ظاهرة الارهاب المتعاظمة حالياً، يتمثل في أنّه خلال فترة تنظيم «القاعدة» كان الارهاب يتعاظم ويتفاعل ويتحرّك من «فوق الى تحت»، بمعنى أنّه كانت هناك قيادة مركزية لإرهاب «القاعدة» تُحرّك خلاياها المنتشرة عبر العالم، وكان يمكن تصوّر أنه في حال ضرب بنية «القاعدة» القيادية الفوقية فإنّ ذلك سيؤدي الى إنهاء انتشار خلاياها او أقله إضعافها وتشتيتها.
لكن اليوم وفي زمن «داعش»، فإنّ ظاهرة الارهاب تتفاعل وتعمل وتتحرّك من «تحت الى فوق»، أيّ أنّ «داعش» تلعب دور القطب الجاذب لكلّ الجماعات الارهابية، بصرف النظر عن اختلاف ساحتها ودولها، الامر الذي يجعلها قوة خارج امكانية السيطرة.
صحيحٌ أنّ هذه الجماعات الارهابية لا تزال حتى هذه اللحظة تعمل بأسلوب محاكاة توجهات القطب «داعش» العامة فتنتمي اليها حيناً بالمبايعة من بعد، او تضرب في ساحتها البعيدة عن مركز الخلافة في الرقّة، بأسلوب يتلاءم مع اجندة «داعش»، ولكن ليس مستبعَداً أن تتوحّد هذه الجماعات المنتشرة حول العالم، في المدى المنظور او المتوسط، في إطار جسد تنظيمي واحد تابع لـ»داعش»- القطب، وعندها سيصبح خطر ظاهرة «داعش» اكبر من الادعاء بإمكانية السيطرة عليه، سواءٌ على المستوى الاقليمي او العالمي.