أكثر فأكثر، تتكامل عناصر المواجهة التي سيكون على «حزب الله» أن يخوضها مرغماً في المرحلة المقبلة. وفيما كل القوى الداخلية تكفيها معاركها على امتداد الـ10452، فإنّ «الحزب» يستعدّ لمواجهة قاسية، أساسها في سوريا. وعلى نتائج المواجهة هناك يقرّر خطواته في لبنان.
قدّمت الضربة الجوية الإسرائيلية لمستودعات «حزب الله» في مطار دمشق إيضاحاً جديداً لطبيعة المعركة التي سيخوضها «الحزب»، ومعه إيران، على رقعة الشرق الأوسط. وهي لا تبدو سهلة.
الخلاصة السياسية التي يتقاطع عليها الخبراء هي الآتية: إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب جدّية في مواجهة التوسّع الإيراني إقليمياً. وجاءت الغارة الإسرائيلية الجديدة خلال زيارة وزير الاستخبارات الإسرائيلي إسرائيل كاتس لواشنطن.
ويقول هؤلاء الخبراء إنّ إسرائيل وافقت على تنسيق خطواتها مع واشنطن حول مواجهة التمدّد الإيراني، علماً أنها لم تتأخّر في السنوات الماضية عن ضرب قوافل الصواريخ الاستراتيجية والذخائر غير التقليدية التي كان «الحزب» يحاول إدخالها من سوريا إلى لبنان، منعاً لإحداث معادلة رعب جديدة بين «الحزب» وإسرائيل.
وعلى رغم التنافر التقليدي للمصالح في الشرق الأوسط، بين الأميركيين والإسرائيليين، فإنّ هناك تقاطعاً في المرحلة الراهنة حول التوسّع الإيراني في الشرق الأوسط. فكلا الطرفين يرغبان في منع طهران من بناء أمبراطورية إقليمية. ولذلك، يقوم الأميركيون بمراجعة سياسية تتجاوز ملف إيران النووي إلى نفوذها الإقليمي.
التصوّر الذي يتبنّاه ترامب يتضمن تعطيل النفوذ الإيراني في سوريا، بما يعني الحرس الثوري الإيراني وعشرات التنظيمات الموالية العاملة هناك، وطبعاً «حزب الله». وقد تمّ إبلاغ موسكو بذلك. لكنّ الروس بَدوا حذرين في مطالبة حلفائهم الإيرانيين بإخلاء الساحة السورية لضرورات استراتيجية. فحماية الرئيس بشار الأسد تحتاج إلى الإيرانيين على الأرض، فيما الروس يتولّون الأمور جوّاً وبحراً.
يريد الأميركيون قطع الجسر الجوي الذي يربط طهران بدمشق، والذي ينقل السلاح والذخائر إلى «حزب الله». وثمة تقارير تحدثت عن استهداف إسرائيل لطائرات كانت تنقل المال الإيراني أيضاً، عبر مطار دمشق. وهذا مخالف للقانون الأميركي الآخذ بالتوسّع، والرامي إلى تجفيف مصادر المال التي تغذي «الحزب».
سبق للأميركيين أن استجابوا لرغبة إسرائيل بمنع سيطرة «حزب الله» على الجنوب السوري. وقد طلبوا ذلك من موسكو، فتجاوبت. لكنّ الغارة الأميركية على مطار الشعيرات كانت رسالة إلى الروس في الدرجة الأولى، ومفادها أن واشنطن عادت لاعباً أساسياً إلى الساحة بعد أفولها خلال عهد باراك أوباما.
في المفهوم الاستراتيجي، لا يعني ذلك أنّ «حزب الله» مستهدف، لكنه ممنوع من التعملق إلى حدّ تهديد إسرائيل. ولا يعني ذلك أيضاً أنّ إسرائيل مرتاحة إلى نيّة ترامب الدخول ميدانياً إلى الشرق الأوسط الذي تعتبره ساحة لها. ويذهب البعض إلى القول: إنّ إسرائيل ليست منزعجة من التدخل الإيراني، ولكنها تريد الاستفادة من الأميركيين لرسم أطر محدّدة لهذا التدخل.
وتريد الإدارة الأميركية الجديدة أن يحدّ «حزب الله» من نشاطه في سوريا. وهي تعتبر أنّ محاصرته مالياً ستقود إلى الحدّ من نفوذه في سوريا ولبنان معاً. وهي لا ترى ذريعة لبقائه في سوريا، خصوصاً أنّ روسيا باتت تحمي الأسد وتتكفل بضمان سيطرته على «سوريا المفيدة»، من الساحل إلى حمص وحلب فدمشق.
ويرى الأميركيون أنّ في عودة «حزب الله» من سوريا ما يسهّل اتجاه الحل السياسي هناك، ولكن أيضاً الحل السياسي في لبنان. فـ»الحزب» يتشدّد في لبنان ويتمسّك أكثر بشروطه عندما يجد أنّ حليفه الأسد مهدّد في سوريا، ويكون أكثر مرونة في لبنان عندما يشعر بالطمأنينة هناك.
اليوم، يرتاح «الحزب» تماماً إلى مستقبل الأسد ومناطقه، ولا سيما منها العاصمة دمشق. وبَدا من ملامح الحل السياسي في سوريا أنّ الاتجاه هو للمقايضة الديموغرافية على أساس مذهبي، وبرعاية دولية وإقليمية.
ولا يمكن الاستهانة بالمتغيرات الديموغرافية التي تشهدها مناطق محدّدة، بفعل عمليات التهجير والنزوح الداخلي والخارجي، والتي قد تدوم مفاعيلها إلى أجل غير مسمّى. ويكفي التفكير في أنّ نحو 12 مليون نسمة (أكثر من نصف السكان) باتوا نازحين خارج مناطقهم، في سوريا أو خارجها. ومعظم هؤلاء من السنّة. فماذا يعني ذلك على الأرض؟
وأمّا في لبنان، فموقع «حزب الله» محفوظ تماماً في أي صياغة مقبلة للتركيبة اللبنانية، ضمن مفاعيل الاتفاق اللبناني المنتظر حتماً، والذي سيسدّ الفجوات التي أحدثها «إتفاق الطائف» في النظام، سواء سمّي ذلك الاتفاق مؤتمراً تأسيسياً أو سوى ذلك.
وثمة مَن يعتقد أنّ أزمة قانون الانتخابات لن تنفرج في المدى المنظور، بل سيتم التمديد للمجلس النيابي الحالي «تقنياً» بذريعة يجري ابتكارها بما يحفظ للأفرقاء جميعاً ماء الوجه، فيتم تأجيل الانتخابات حتى الخريف المقبل أو الصيف أو أكثر. وخلال هذه الفترة تكون الفرصة متاحة لانعقاد طاولة حوار في بعبدا، تنتهي بصياغات جديدة وشاملة للنظام.
إذا كانت سوريا قد دخلت في خيار التفكّك، فلبنان لن يتفكّك، لكنه سيدخل في شيء من الفدرالية (الوصف المقبول هو الانطلاق من اللامركزية الموسّعة). وهذا خيار يتيح لـ»حزب الله» أن يحافظ على التماس مع مناطق حليفه الأسد.
وفي هذه الحال، سيحظى «حزب الله» بما يريد من نفوذ، وسيستفيد من أوراق القوة التي يملكها. لكنه سيعترف بأوراق القوة التي يملكها الآخرون، وهي ليست قليلة. فـ«الحزب» لاعب قوي، لكنه ليس اللاعب الوحيد.
على الأرجح، هذا هو اتجاه الأزمة التي تضرب الدستور والكيان، والتي يبدو قانون الانتخاب أحد مظاهرها. ولذلك، لا يبدو إجراء الانتخابات أمراً مرغوباً فيه حالياً، لأنه يكرّس البقاء في مستنقع الأزمة.