IMLebanon

يا لها من تسوية!

 

أي مراقبٍ سياسي تابعَ الطريقة التي تبلورت فيها التسوية الرئاسية سنة 2016، والمسار الذي سبقها على مدى سنوات، وما تضمنه من اتهامات وشتائم متبادلة بين الطرفين الأساسيّين في التسوية، كان يعلم أنها تسوية لن يكتب لها النجاح والاستمرارية إلّا في حالة واحدة، وهي انكسار أحد الفريقين لصالح الآخر، والتحاقه به، والتخلي عن دوره وموقعه في المعادلة السياسية.

 

إستخدم العماد ميشال عون كل الوسائل المتاحة ليعبّد طريقه نحو القصر الرئاسي في بعبدا. تحالفَ مع “حزب الله” نافضاً يده من كل ما أورده في الوثيقة البرتقالية، وأوعز بسحبها من التداول. تصالح مع دمشق التي لطالما كانت ناخباً مهماً في الانتخابات الرئاسية اللبنانية، وخاصمَ الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ثم وريثه السياسي، الرئيس سعد الحريري، وشهرَ كتاب “الإبراء المستحيل” لاستعماله عند الحاجة، وأبقى العلاقة مع رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”، وليد جنبلاط، رهينة التجاذب غير المبرّر.

 

مع الانعطافة الشهيرة التي أعلنها الرئيس سعد الحريري بتبنّي ترشيح العماد عون للرئاسة، أعيدَ ترتيب التفاهمات: وثيقة ثنائية جديدة مع معراب، عنوانها الأول دعم “القوات اللبنانية” ترشيحه للرئاسة، وباقي البنود تصبح ثانوية، وبناء تفاهمٍ سياسي جديد مع الحريري وتيّاره أشبه ما يكون بتفاهم مصالح مِن أن يكون تسوية سياسية بمعنى المصالحة العميقة بما يراعي المصلحة العامة، وإعادة “ترطيب” العلاقة مع جنبلاط بحدّها الأدنى لاجتياز الاستحقاق الرئاسي، وبعدها “لكل حادثٍ حديث”.

 

هذه الشبكة المعقدة من التفاهمات الثنائية والجانبية التي تناقضُ بطبيعتها تكوين لبنان المتنوّع والتعددي، ولا تتلاءم مع التوازنات السياسية التي أُرسيت في مختلف المنعطفات التاريخية الكبرى، كان مكتوباً لها أن تفشل.

 

فمن تحرّك باسم العهد، وقاد الحركة السياسية تحت مظلّته لم يدرك حجم المخاطر المتولدة عن التلاعب بالتوازنات الدقيقة، فبدّد رصيد العهد، ودفع جميع مَن تعاونوا معه نحو حافة الهاوية مرتكزاً على ما اعتبره “فائض القوة” الذي وفرّته له الظروف الجديدة، وغير آبهٍ بالخسائر التي تكبدها هؤلاء جرّاء مواقفه الاستفزازية، وسياساته الفئوية المرتكزة، إلى حدٍ بعيد، على إذكاء المشاعر المذهبية والطائفية.

 

لقد كان تفاهم المصالح ركيكاً، ويفتقد إلى أي مضمون سياسي جدي هدفه الأول تبادل الاستفادة، والوصول إلى مناصب الرئاسة الأولى مقابل الرئاسة الثالثة. سرعان ما تلاشت كل هذه الاعتبارات المصلحية أمام عمق الأزمة السياسية والاقتصادية، والإجتماعية، والمعيشية، والتي تفاقمت بشكلٍ غير مسبوق، ولامست حدود الانهيار التام.

 

بالإضافة إلى كل ذلك، شكّل الإمعان في توظيف فكرة “الميثاقية” ومصطلحاتها خدمةً لفريق معيّن، ذريعةً لأطرافٍ أخرى لاستخدامها لمصالحهم، وتحوّلت العملية السياسية اللبنانية في الكثير من محطاتها حلبةً للتنافس السلبي بدل التعاون الإيجابي، فكرّست بعض القوى معادلة “لا ألغيك، ولا تلغيني”، عوضَ أن تكون تعاوناً مشتركاً للمصلحة العامة، حتى ولو تحققت على ضفاف ذلك المصلحة الخاصة.

 

مهما يكن من أمر، وصلت البلاد إلى أفق سياسي مسدود، وإلى منحدرات اقتصادية ومالية خطيرة تنذر بالانهيار المجتمعي التدريجي، مع ما يُرافق ذلك من تلاشٍ للقيم والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية والانسانية، وهو ما سيعرف بصراع البقاء والوجود! لبنان يملك كل مقومات النجاح والازدهار، ولكن عندما تتوفر الإرادة السياسية الجدية والصادقة والمسؤولية!